Q هل يتعارض الزهد في الوقت الحاضر مع التجارة؟
صلى الله عليه وسلم في الحقيقة الأمر يحتاج إلى تفصيل؛ لأنه مما يلتبس على البعض، والأصل أن الزهد لا يتنافى غالباً مع التجارة، لكن قد يتنافى مع التجارة عند بعض الناس، وهذا أمر.
الأمر الآخر: ما هو مفهوم التجارة؟ هل هي التجارة التي تعني تحصيل الدنيا وجمعها على غير أصول شرعية، وبأي طريق كان، ثم عدم القيام بحق المال؟! لا، فليست هذه تجارة مباحة أو تجارة سليمة، وإنما التجارة هي التي هيأها الله للعبد بدون تكلف كبير، وبدون أن يغفل عن ذكر الله وشكره، وتؤدي إلى أن يؤدي للمال حقه، فهذه تجارة يهبها الله عز وجل لمن يشاء، وهي نادرة في العباد والزهاد الكبار على مدار التاريخ، لكن في الغالب أن الذين يجمعون بين التجارة والزهد هم الأكمل من خلقه، فهذا أبو بكر رضي الله عنه تاجر وزاهد، وأفضل الخلق بعد النبيين، بل أغلب العشرة المبشرين بالجنة قد اشتغلوا بالدنيا والعبادة والزهد، مع أنه لا ينبغي لكل مسلم أن يقيس نفسه على هؤلاء، فهؤلاء أصحاب مواهب عالية، وأين نحن منهم؟ نحن مساكين يستهوينا الدرهم والدينار والريال، فتضحك لنا الدنيا فنضحك ونجري وراءها؛ لأننا لسنا كأولئك القوم، لكن إن وجد من العباد من هو مثل هؤلاء ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولكن ثق أنه لا يكون من الذين بيتوا قصد التجارة، لكنهم عملوا بمقتضى ما أمر الله به من السعي في الدنيا، فسعوا فجاءتهم طائعة، وجاءهم الزهد بما وفقهم الله به.
ومن المناسب أن أنبه إلى ما يحدث عند بعض طلاب العلم من الانجراف إلى الدنيا، وهي في الحقيقة من الأشياء والظواهر التي كثرت في الآونة الأخيرة، وهي فلسفة قال بها بعض الناس، ولذا فالذي ينبغي لطلاب العلم أن تكون الدنيا بأيديهم؛ لئلا يكونوا عالة على غيرهم، لكن لا تكون الدنيا هي همهم العظيم، فذلك خطير، فطالب العلم الآن إذا فرغ نفسه للعلم والدعوة سخر الله له الدنيا وأهل الدنيا، وأنا أخشى إذا تفرغ للدنيا أن يخسر العلم والدنيا والدين، أو يخسر على الأقل أكثرها، وأقول هذا وأنا أكاد أجزم به: أن مما أخافه على طلاب العلم والدعاة أن ينجرفوا في أعمال الدنيا، والكفاف يكفيهم، أما أن يدخلوا في مشاريع تستحوذ على جهودهم وطاقاتهم وأعصابهم فهذا مسلك خطير، ودعوى: أنه ينبغي أن يكون بيد أهل الخير المال، أقول: هذه ساقطة، اللهم إلا النادر القليل؛ لأن طالب العلم والداعي إلى الله عز وجل إذا ملك قلوب الناس بعلمه ودعوته ملك الدنيا وأصحاب الدنيا، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ملك الدنيا وأصحاب الدنيا، فكان عليه الصلاة والسلام يعطى المائة من الإبل فيصرفها في وقت واحد، وما مات عليه الصلاة والسلام إلا والأمة المسلمة تملك الدنيا من حولها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وما سعى صلى الله عليه وسلم يوماً في تجارة، وإنما جاءته الدنيا طائعة، فدانت له القبائل بما تملك من المال، ثم بعد ذلك دانت الدنيا كلها للمسلمين، حتى فارس والروم اللتان تملكان أغلى الكنوز سخرهما الله للمسلمين، لا بسعيهم للتجارة وإنما بجهادهم في سبيل الله وبتعليمهم العلم، وهكذا ينبغي أن يكون هذا المبدأ، وأنا أقول: لا حرج على طالب العلم أن يسعى في الدنيا، لكن لا يكون هذا التوجه لطلاب العلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.