قال رحمه الله تعالى: [وإن كان ذلك المشهد]، يعني: مشهد الربوبية.
ثم قال رحمه الله: [قد أدهشه وغيب عقله؛ لقوة سلطانه الوارد، وضعف قوة البصيرة أن يجمع بين المشهدين، فهذا معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين: الأمر الشرعي، ومشهد الأمر الكوني الإرادي، وقد زلت في هذا المشهد أقدام كثير من السالكين، لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين].
قوله: (فهذا معذور منقوص) كثيراً ما يقولها رحمه الله في طوائف من هؤلاء، وأحياناً يشير بها إلى أشخاص معينين، أمثال التستري والبسطامي وابن أبي الحواري وأمثالهم، والجنيد وإن كان ليس له صفحات كبيرة، لكنه قد مال إلى هذا الاتجاه، بينما التستري والبسطامي وابن أبي الحواري ومن سلك سبيلهم أصحاب هفوات كبيرة، وهؤلاء هم الذين يعبر عنهم الشيخ أحياناً بأن فيهم معذوراً منقوصاً، والشيخ رحمه الله يفسر ما يحدث منهم من ترهات؛ لأنهم يدعون هذا الدعاوى، يدعون أنهم يستغنون بالربوبية عن الإلهية، لكن من حيث العمل فإنهم يعملون بالشرع، ولا أدري هل هذه حقيقة فقهية؟ الله أعلم بحالها، لكن الشاهد هنا أو الذي يهمنا هو عندما نتأمل فيما أسند إليهم من أقوال وأفعال نجد فيها كفراً تتعلق بهذا المفهوم الذي ذكره الشيخ، وهو أنهم يسعون إلى شهود الربوبية ويبالغون فيها، ويستهينون معها بكثير من الشرائع، كالجماعات والجمعات، واستهانوا بالجهاد، واستهانوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخذلوا عن طلب العلم وعن طلب الحديث، وجاءت منهم كلمات تدل على أنهم قد يتلقون من مصادر غير المصادر الشرعية، وعن أهل الكتاب وعن غيرهم، أو عن مجاهيل أو عن أنفسهم، أو أنه بالتأمل ترد إليهم خواطر يصفونها بما لا يوصف به إلا الوحي.
فالشيخ رحمه الله يقول في مثل هؤلاء: بأنهم معذورون! ولا أدري ما وجه اعتذار الشيخ لهم؟! وإن كان قد فسره أحياناً فقال: بأنه تعتريهم حالات معينة وهو ما نصفها الآن بالهستيريا، من شدة الانقطاع والتعبد، ومن شدة الجوع والسهر، فيكون الواحد منهم عنده شيء من الاضطراب والهسترة، فيتكلم بما لا يعلم، بل قد يتكلم أحياناً بالكفريات، مع أن كلهم قد تكلموا بالكفريات، كأن يقول أحدهم: إنه لا يبالي بالنار! أو يقول لليهود: لا عليكم سأحجبكم من النار! أو أمنعكم من النار! أو أعطيكم إياها! أو يقول: النار ما هي إلا أن أنصب عليها خيمة فتنطفئ، ومثل هذه الكلمات الكفرية.
فـ شيخ الإسلام يعتذر لهؤلاء، وهذا معنى قوله: فهذا معذور لجهله فيما يبدو، أو لأنه غلبت عليه العبادة حتى قال هذا أو تكلم الشيطان على لسانه، ثم قال: إنه منقوص، يعني: إن في كلامه ضلالة، النقص هنا نقص الضلالة.
وأعتذر عن استكمال الفائدة، وهذا مما ينبغي أن يعنى به الباحثون؛ لأنه زلات أقدام، وهؤلاء العباد المتأخرون في القرن الثالث وما بعده الذي نزع عنده هذه النزعات يكون عندهم -أحياناً- نوع من الخروج عن مقتضى الشريعة بكلمات صعبة، وأيضاً أحياناً قد تصدر منهم أعمال وتصرفات هي أقرب إلى الكفر والإلحاد، فهل يعقل أنه بمجرد اختلال العقل يجعل هذا الشخص يتكلم بكفر مقنن معروف مشهود عند اليونان والصابئة والفرس والمجوس، كفرياتهم التي قالوا بها هي مظاهر موجودة في الأمم الضالة، فكيف وصلت إليهم، ثم تكلموا بها في حالات يزعمون أنهم لا يسيطرون على عقولهم، وأنه قد ضاعت عنهم عقولهم، ولذلك عذروا أمام القضاء وأمام بعض الولاة؛ لأن ظاهر الأمر في ذلك الوقت أن هؤلاء لا يتكلمون إلا في حالات تعتريهم فيها الهسترة.
أقول: قد يكون هذا، وقد يتكلم الشيطان على ألسنتهم، لكن هل يعقل أن يأتي بأصول مقننة راقية على مستوى فيه التفكير والتعبيرات الفلسفية والمذهبية المعروفة عند الأمم؟ هذا أمر قد لا يتأتى إلا لمن أشرب في قلبه -والله أعلم- هذه الأمور ثم أعلنها.
أيضاً هذه من المسائل التي تحتاج إلى بحث، وأظن أني أكثر من مرة أعرض هذا الموضوع، وأرى أنه من الواجب التثبت والبحث فيه؛ لأن موضوع العباد من الموضوعات الخطيرة التي يرتكز عليها أهل البدع إلى يومنا هذا، بل أعظم شبهة عند أصحاب الطرق الصوفية وأصحاب المذاهب الفلسفية والإلحادية أن هؤلاء سلف لهم، وأن هؤلاء رضي عنهم السلف، هذه تحتاج إلى تحقيق.
لكن يبقى أيضاً أمر آخر أنبه عليه لمن يريد أن يبحث، ألا وهو أن كثيراً من المبتدعين قد يكون من المكذوب عليهم، وهذا مما أشار إليه شيخ الإسلام أكثر من مرة، يعني: عندما يجد أن المسألة ليس فيها مجال للدفاع، يقول: ونشك أن هذا مما ينسب إلى فلان، أو لعله لا يثبت عنه، فهذه أمور عن أمة سلفت، والمفروض أننا لا نفتش عن مصائر هؤلاء العباد وأمرهم إلى الله عز وجل، لكن لما كانت مناهجهم وزلاتهم هذه ركائز ومرتكزات لأهل البدع والأهواء إلى يومنا هذا يتكئون عليها كان لابد من بحثها وتحقيقها، بصرف النظر عمن قالوا بها، وبغض النظر هل يجرّمون أو لا