معاينة القلب لحقيقة الربوبية والإلهية عند تحقيق معنى الربوبية والألوهية

قال رحمه الله تعالى: [فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، فلا يرى نفعاً ولا ضراً ولا حركة ولا سكوناً ولا قبضاً ولا بسطاً ولا خفضاً ولا رفعاً إلا والله سبحانه وتعالى فاعله وخالقه وقابضه وباسطه ورافعه وخافضه، فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات، وهو علم صفة الربوبية، والأول هو علم صفة الإلهية، وهو كشف سر الكلمات التكليفيات].

هذه العبارة الدقيقة فيها استعمال المصطلحات ذات التصور، وكثيراً ما يستعمل شيخ الإسلام رحمه الله هذه المصطلحات خاصة عندما يتحدث عن الأعمال القلبية أو عن بعض الأمور المتعلقة بالإلهية والربوبية، ويبدو لي والله أعلم أنه أراد أن يقرب أهل زمانه الذين ابتلوا بالتصوف أو أكثرهم إلى معاني التوحيد الحقيقية من خلال مصطلحاتهم، فاستعمل رحمه الله هذه المصطلحات استعمالاً صحيحاً، ووجهها توجيهاً صحيحاً بالآيات والنصوص، فكلمة: (الشهود) لم تكن من الكلمات التي يستعملها خلص السلف، وإنما استعملها بعض السلف الذين عندهم نزعة تعبد، لكنهم لم يكونوا من الأئمة الكبار، لكن لما عمت بها البلوى في عهد شيخ الإسلام أراد أن يجر المتصوفة وعامة الناس الذين ينزعون إلى التصوف، والذين انطبعت في أذهانهم هذه المصطلحات إلى فهم المصطلحات الشرعية الحقيقية من خلال استعمال هذه الكلمات، فقوله: (فهذا الشهود) قصده: معاينة الحقيقة معاينة قلبية؛ لأن القلب إذا اكتملت فيه معاني الربوبية فكأنه يشهد الحقيقة ببصيرته، أو هو فعلاً يشهد حقيقة الربوبية ثم الإلهية ببصيرته، فهو قصد بالشهود تحقيق التوكل والتسليم، بحيث إن الإنسان يكون توكله وتسليمه وإذعانه لله عز وجل، وكأنه يشهد هذه الحقيقة على مبدأ الإحسان الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا لا يكون إلا لتحقيق معنى الإلهية والربوبية في وقت واحد.

وكذلك قوله: (هو سر الكلمات الكونيات)، فالكلمات الكونيات هي التي يكون بها تدبير الكون من الله عز وجل، فيدبر الكون سبحانه بكلماته، وكلماته تكون فيها الربوبية، كما أن من كلماته ما يكون به الوحي والأمر والتشويق.

والكلمات تشمل الكلمات الكونية والكلمات الشرعية، والكلمات الكونية قد تكون بالوحي وقد تكون بما يدبر الله به الكون ومثل: (كن)، فهي من كلام الله عز وجل، لكن ليست من نوع الوحي، فكل ذلك كلمات الله الكونيات التي يكون بها تحقيق التوكل والتسليم؛ لأنها تعني الإذعان بالربوبية لله عز وجل.

وكذا قوله: (وهو كشف سر الكلمات التكليفيات)، فالكلمات التكليفيات هي كلمات الله التي فيها الأمر والنهي والخبر، وهي كلماته بالوحي إلى رسله ومن خلال الكتب المنزلة، فهذا هو النوع الثاني: وهو توحيد الإلهية الذي يتمثل بكشف سر الكلمات التكليفيات التي يكلف الله بها عباده.

إذاً: فتوحيد الربوبية متعلق بالتدبير بالله عز وجل وبكلمات الله الكونية، وتوحيد الألوهية متعلق بالأمر الشرعي والخبر وكلماته التي هي الوحي.

قال رحمه الله تعالى: [فالتحقيق بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف علم الإلهية، والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم].

قوله: (والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم) شرح لمعنى كلمة: (الشهود) الذي هو سر الكلمات الكونيات، أعني: توحيد الربوبية.

قال رحمه الله تعالى: [والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير الساري في الأكوان، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، فإذا تحقق العبد لهذا المشهد ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم والجمال داخل في مشهد الربوبية.

ولهذا قيل: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهي، والمحبة والخوف والرجاء كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة في ذلك].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015