قال المصنف: [فإن دل الدليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص وإن لم يدل لا يخصص به] ، وذلك ثلاثة أنواع: النوع الأول منه: ما دل الدليل على وجوبه عليه، فيسن لأمته: كالسواك، وقيام الليل، وصلاة الضحى، وقضاء دين الميت المعسر.
والنوع الثاني: أن يدل الدليل على حرمته عليه صلى الله عليه وسلم، فيكره لأمته: كأكل كل ذي رائحة كريهة، ولبس ما فيه وسخ ونحو ذلك، فما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يكره لأمته.
والنوع الثالث: ما دل الدليل على جوازه له صلى الله عليه وسلم دون غيره، فيحرم على أمته: كالتزوج بأكثر من أربع، وكالزواج بلا ولي ولا صداق، وكالخلوة بالأجنبية، والحكم للأقارب، والحكم مع غيبة الخصم، فكل ذلك دل الدليل على جوازه له هو، وهو محرم على غيره من الأمة، فلهذا قال: [فعل صاحب الشريعة لا يخلو إما أن يكون على وجه الطاعة أو القربة أو غير ذلك، فإن دل الدليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص] معناه: أن الأصل عدم الاختصاص، ولهذا احتيج فيه إلى الدليل، فإن دل الدليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص، [وإن لم يدل لم يختص به] ؛ لأن الأصل أنه مبلغ عن الله تعالى، وفيه أسوة حسنة لكل المؤمنين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] .
ثم قال: [فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا] : ذهب بعض الشافعية إلى أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في معرض البيان يدل على الوجوب.
[ومن أصحابنا من قال يحمل على الندب] : وهذا مذهب جمهور الأصوليين، فإنهم يقسمون السنة إلى الأقسام الثلاثة، فيقولون: القول تؤخذ منه الأحكام الخمسة، والفعل يؤخذ منه حكمان فقط وهما: الندب والإباحة، والتقرير يؤخذ منه حكم واحد وهو الإباحة فقط، ومنهم من قال: يتوقف فيه، فإن كان على غير وجه القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا، ويحمل على أنه من الجبلة فيكون جائزاً في حقه وفي حقنا: كالعطاس والنوم الاستيقاظ ونحو ذلك، فهذه من أفعال البشر المعتادة فيجوز في حقه وفي حقنا، ولا يشرع الاقتداء به فيها، ومثل هذا هيئات اللباس: كالعمامة والرداء والإزار وتقلد السيف ونحو ذلك، فهذا يدل على أحسن الهيئات وأقربها للفطرة، لكنه لا يطلب من أحد أن يتأسى به فيها فلا يثاب فاعل ذلك، ولا يشرع الاقتداء به في ذلك، فلهذا قال: [فإن كان على غير وجه القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وفي حقنا، وإقرار صاحب الشريعة على القول هو قول صاحب الشريعة] ، أي: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للقائل في قوله -إذا كان ذلك تحت حكمه وبمجلسه وبعلمه- فإنه يحمل على رضاه به.
والإقرار ينقسم إلى قسمين: تقرير بالاستحسان، وتقرير بالسكوت.
فالتقرير بالاستحسان: كتقريره لقول مجزز المدلجي حين رأى أقدام زيد بن حارثة وابنه أسامة قد خرجت من كساء لبساه، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
قالت عائشة: (فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير جبهته مسروراً، فقال: أما علمت أن مجززاً المدلجي رأى أقدام زيد وأسامة قد خرجت من كساء يلبسانه، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) ، فأقر القيافة، وفي ذلك رد على المنافقين، فإن زيداً شديد البياض، وابنه أسامة شديد السواد، وكان المنافقون يطعنون في نسب أسامة، فجاء هذا الأعرابي الذي يعرف الأثر والتشبيه، فشبه أقدام أسامة بأقدام زيد ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فدل هذا على تقريره للقيافة.
ومثل ذلك: إقراره بالسكوت: كإقراره لبعض ما جرى بحضرته، كقوله للأنصاري حين رآه يصلي بعد الفجر: (ألم تشهد معنا الصلاة؟ قال: بلى.
قال: فماذا كنت تصلي؟ قال: ركعتا الفجر استعجلت عنها بالصلاة) فسكت، فهذا السكوت دليل على الإباحة، ومثله إقرار الفعل كما قال المصنف: [وإقراره على الفعل كفعله] ، فقد ثبت أنه أكُل الضب على مائدته، وأنه أهدي إليه ضب مشوي فقال: (لم يكن في بلاد قومي فأجدني أعافه) ، فاجتره خالد بن الوليد فأكله، وكل ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبإقراره، فدل هذا على جواز أكل الضب.
قال المصنف: [وما فعل في وقته في غير مجلسه، وعلم به ولم ينكره، فحكمه حكم ما فعل في مجلسه] .
والمقصود بذلك أيضاً: إذا كان تحت إمرته، بخلاف ما لم يكن تحت إمرته، كما كان في العهد المكي من أفعال أهل الجاهلية، ولو لم يصرح بإنكاره؛ فإن سكوته عنه ليس إقراراً له، أما ما كان بالمدينة تحت إمرته فحصل وعلم به ولم ينكره فيعتبر ذلك إقراراً منه له، فحكمه حكم ما فعل في مجلسه، ويضاف على هذا: ما فعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المؤمنين ولو لم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم ينزل الوحي بإنكاره، وقد كان ظاهرة منتشرة بينهم، فيعتبر ذلك إقراراً من الله سبحانه وتعالى لهم، إذ لو كان منكراً لنزل الوحي بإنكاره، ودليل هذا قول جابر رضي الله عنه كنا نعزل والقرآن ينزل، وقد بين أن هذه الظاهرة كانت منتشرة في وقت نزول الوحي، فلم ينزل القرآن بإنكارها وتحريمها، فدل ذلك على جوازها، وهذا من إقرار الله سبحانه وتعالى، وهو أبلغ من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم.