قال المصنف رحمه الله: [والتقليد: قبول قول القائل بلا حجة] .
[قول القائل] أي: من كان أهلا لأَنْ يُقبلَ قولُه.
[بلا حجة] أي: من غير معرفة الدليل.
قال: [فعلى هذا قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم يسمى تقليدًا] ، وهذا غير صحيح، فقد ذكرنا أن التقليد لا يكون إلا بأخذ قول غير المعصوم من غير معرفة دليله.
[ومنهم من قال: التقليد قبول قول القائل وأنت لا تدرى من أين قاله] ، أي: لا تدري هل له فيه حجة أم لا.
[فإن قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بالقياس، فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليدًا] .
والنبي صلى الله عليه وسلم اختُلِفَ في حكم اجتهاده: فقيل: لا يجوز له الاجتهاد؛ لأنه يأتيه الوحي من عند الله، والوحي قطعي، والاجتهاد ظني، واستبدالُ الاجتهادِ الظني بالوحي القطعي من استبدال الأدنى بالذي هو خير.
وقيل: بل يجب عليه الاجتهاد، لقول الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، ولقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] ، ولأنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في أمور أُقِرَّ عليها بالوحي، وفي أمور لم يُقّرَّ عليها بالوحي.
والأمور التي لم يُقَرَّ عليها في الاجتهاد، منها: 1- فداء أسرى بدر، فقد قال الله في ذلك: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:67] .
2- وكذلك وما حصل له مع ابن أم مكتوم، عندما أتاه وفي مجلسه عليةُ القوم من ملأ قريش، فقال الله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:2-3] .
3- ومثل ذلك: اجتهاده في معذرة المنافقين حين أقسموا له في رجوعه من تبوك، فعاتبه الله في ذلك بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43] .
4- وكذلك تحريمه لأمته مارية أمِّ إبراهيم لإرضاء أمهات المؤمنين، وبالأخص لإرضاء حفصة، أنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] .
5- وكذلك ما حصل في قصة زينب بنت جحش مع زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها لزيد، ثم أتاه الوحي أن ذلك النكاح لن يستمر، وأن زينب زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فهو يعلم ذلك عن طريق الوحي، ومع ذلك فكان زيد يأتيه يشكو إليه، وتأتي زينب فتشكو، فيقول لـ زيد: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37] ، وهو ما أوحاه الله إليه من أنها ستكون زوجتَه في الدنيا والآخرة، فقال الله في ذلك هذه الآيات من سورة الأحزاب.
6- وقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا: كاجتهاده يوم بدر في النزول على البئر التي تليه، ولذلك قال له الحباب بن المنذر: (يا رسول الله! أرأيت منزلك هذا، أهو الرأي والحرب والمكيدة، أم وحي أُنزل إليك؟ قال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة.
فقال: ليس هذا بمنزل) ، وأمره أن ينزل على آخر بئر، مما يلي العدو، وأن يُغَوِّرَ الآبار الأخرى، ففعل.
7- ومنها: نهيه عن تأبير النخل، وذكره أنه لا يغير شيئاً، فقال: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) .
فالراجح إذاً: حصول الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يُقرُّ على الخطأ قطعاً، بل لا بد أن يأتيه الوحي بعد اجتهاده، واجتهاده رفعٌ لدرجته، وزيادة لأجره، لكن مع ذلك الأخذ بقوله حتى لو كان من اجتهاده لا يُسمى تقليداً؛ لأنه معصوم ولا يمكن أن يُقرَّ على الخطأ.