باب [ترتيب الأدلة] .
عقد هذا الباب لترتيب الأدلة، فيما يُبدأ به منها، وما هو قطعي منها، وما هو ظني.
فقال رحمه الله: [وأما الأدلة: فيقدم الجلي منها على الخفي] .
فالجلي هو: واضح الدلالة، المتفق على دلالته، فهو مقدم على الخفي الذي يختلف الناس في دلالته ومعناه.
قال: [والموجب للعلم على الموجب للظن] .
أي: القطعي منها، مقدم على الظني.
والمقصود بذلك: القطعي في الورود، فهو مقدم على الظني فيه.
وهنا أربع احتمالات: الأول: أن يأتي الدليل قطعياً في دلالته، وقطعياً في وروده، فهذا أبلغ الأدلة وأقواها.
الاحتمال الثاني: أن يأتي الدليل قطعياً في الورود -آية من كتاب الله مثلاً أو حديثاً متواتراً- ولكنه ظني في دلالته، فدلالته على المعنى المقصود: ظنية، وهذا هو الذي يليه.
الثالث: أن يكون الدليل ظنيَ الورود قطعي في الدلالة، حديث ظني ولكنه صريح في الدلالة، فهذا الذي يليه في المرتبة الثالثة.
الرابع: أن يكون ظني الدلالة والورود، حديث ظني في الورود، ومع ذلك دلالته غير صريحة، فهذا في المرتبة الرابعة.
ثم قال يرحمه الله: [ويقدم النطق على القياس] .
[النطق] المقصود به النص، من كتاب أو سنة، فهو مقدم على القياس.
ومثل ذلك: الإجماع مقدم على القياس أيضاً.
[والقياس الجلي على الخفي] .
كذلك يقدم القياس الجلي على القياس الخفي.
والقياس الجلي: هو قياس الأولى، كقياس الضرب على التأفيف، فهذا مقدم على القياس الخفي.
وهذا محله عند وجود الجميع، أو عند التعارض، فإذا أردتَ أن تستدل لأمر واحد، فترتب الأدلة هكذا: تبدأ بالدليل من الكتاب، ثم بالدليل من السنة، ثم بالدليل من الإجماع.
وبعض الأصوليين يبدأ بالإجماع أولاً، لأنه لا يُنسخ، ولأنه واضح الدلالة دائماً، ثم بالدليل من الكتاب، ثم بالدليل من السنة، ثم بعد هذا بِجَلِيِّ القياس، ثم بخفيه، وهكذا.
وكذلك إذا تعارض دليلان فأقواهما الذي يُؤخذ به هو القطعي كما سبق، ثم النصي مقدم على القياس، ثم القياس الجلي مقدم على القياس الخفي.
ثم قال: [فإن وجد في النطق ما يغير الأصل وإلا فيستصحب الحال] .
[إن وجد في النطق] أي: في المروي من الوحي.
[ما يغير الأصل] أي: ينقل عن البراءة الأصلية.
[وإلا فيُستصحب الحال] أي: يؤخذ بالاستصحاب حينئذ.
والحال هو: البراءة الأصلية.