قال المصنف: [فقياس العلة: ما كانت العلةُ فيه موجبةً للحكم] .
العلة في الأصل: ما يُغَيِّر حالَ الشيء كالمرض، فالمرض يُسمى علة؛ لأنه يغير حال المريض.
والعلة في الاصطلاح: هي العلامة التي أناط بها الشارعُ الحكمَ، وأدركَ العقلُ وَجْهَ ترتيبه عليها.
ويمكن أن يُقال: هي الوصفُ الظاهر المنضبط، الذي عَلَّقَ الشارع به الحكمَ، وأدرك العقلُ وجهَ ترتيبه عليه.
فقلنا: (هي الوصف) ، والمقصود به: كل ما يُعَلَّلُ به، سواء كان حكماً شرعياً، أو كان إثباتَ أمر، أو كان نفيَ أمر، أو كان مركباً من أمرين، فكل ذلك يُسمى علةً.
(الوصف الظاهر) ، فالوصف الخفي لا يمكن أن يُعلل به، ومثله: الوصف الطردي، الذي لا اعتبار له.
(المنضبط) بخلاف الوصف المتردد، فلا يصلح للتعليل، فلا يُعلل به كالمشقة مثلاً، فهي غيرُ منضبطة؛ لاختلافهما بين شخص وشخص.
(الذي أناط الشارع به الحكم) أي: علَّق به الحكمَ.
(وأدرك العقلُ وجه ترتيبه به) ليَخرُج بذلك السببُ؛ فإن الشارع أناط به الحكم، لكن لا يُدرك العقلُ وجهَ إناطته به، كغروب الشمس، فقد علق الشارع عليه وجوبَ ثلاث ركعات، وهي: صلاة المغرب، وغروب الشفق علق الشارع عليه وجوبَ أربع ركعات، وهي صلاة العشاء، والعقل لا يُدرك لماذا عُلقت ثلاث ركعات على غروب الشمس، وأربع ركعات على غروب الشفق.
وأما العلة: فإن العقل يُدرك وجهَ تعليق الحكم عليها، كالإسكار: علة لمنع الخمر، فالعقل يُدرك العلاقة هنا؛ لأنه يعلم أن الخمر تَعتدي على العقل وتزيله، وأن الحفاظ على العقل من ضروريات الناس، لذلك جعل الشارعُ الإسكارَ - وهو إزالة العقل - علةً لتحريم الخمر.
قال: [فقياس العلة: ما كانت العلةُ فيه موجبةً للحكم] .
أي: كانت العلةُ فيه مقتضيةً للحكم، بمعنى: أنه لا يحسن تخلف الحكم عنها، بأن تُوجد هي في الفرع، ولا يوجد الحكم فيه، فهذا يكون حينئذ ممنوعاً.
ومثال ذلك: قياس ضرب الوالدين أو أحدهما على التأفيف؛ فإن الله تعالى يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] ، فهنا نهى أن يقول الولد لوالده: أفٍّ، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أفِّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) ، ومعناهما واحد، ويُلحق بالتأفيف: الضربُ والشتم وأنواع الأذى؛ لأن العلة متحققة فيها، وهي: عدم الإحسان إلى الوالدين وأذاهما، فالضرب أبلغ في الأذى من التأفيف، ومثله: الشتم، فكل ذلك أبلغ في الأذى من التأفيف.
فالمقيس عليه هو: التأفيف، والفرع: هوالضرب وأنواع الأذى، والحكم: التحريم، والعلة: الإيذاء.
فلا يحسن تخلف الحكم في الفرع الذي هو الضرب، بأن يُباح الضرب، مع منع التأفيف، فهذا لا يُستحسن عقلاً.
وهذا الفرع أبلغ في تحقق العلة فيه من الأصل، والعلة: هي قطع الأذى.
والمساوي: إلحاق الأرز بالقمح في الربوية، وفي التعشير، أي: في أخذ عشره في الزكاة، إذا كان مما سقت السماء، ونصف عشره إذا كان مما سقاه الإنسان بآلته.
والأرز لم يرد فيه النص، والنص إنما ورد في القمح، لكن يُلحق به الأرز لاجتماعهما في العلة وهي: الطعمية، والادخار، والكيل، والوزن، فهما يجتمعان في كل الأوصاف المعتبرة، فكلاهما طعام مقتات مدخر مكيل أو موزون، فيُلحق به بهذا القياس.
فالفرع: الأرز، والأصل هو البر -أي: القمح- والحكم: حرمة الربا، ووجوب الزكاة، والوصف الجامع: الطعمية، أي: الاقتيات والادخار، أو كونه مكيلاً أو موزوناً، على الخلاف في علة الربا في هذه الأجناس.