ثم عرف المتوتر بقوله: [فَالْمُتَوَاتِرُ: مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ] ، المتواتر مشتق من التواتر: وهو أن يطأ بعض الإبل أثر بعض، فيقال: تواترت الإبل، أي: وطئ بعضها أثر بعض، ويقال: تواتر السيل، أي: تواطأ في اتجاه محدد، فبدل أن كان شفعاً أصبح وتراً، فإذا كانت الناقة تطأ على أثر الأخرى، فقد كانت مع الأولى ثانية تالية لها فكانت شفعاً، فلما وطئت أثرها أصبح أثرهما كأثر واحد فكانتا وتراً بذلك، ولهذا يسمى بالتواتر، وعرفه بأنه: ما يوجب العلم، أي: أنه يوجب العلم اليقيني الضروري، وقد سبق ذكر ذلك في شرح العلم الضروري.
ثم قال: [وَهُوَ: أَنْ يَرْوِيَ جَمَاعَةٌ لاَ يَقَعُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ مِثْلِهِمْ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ] ، أي أنه خبر جماعة تحيل العادة اتفاقهم على الكذب، بأن لم يكونوا من سن واحدة، ولا من مكان واحد، فإذا كانت الجماعة سرية من جيش لها قائد واحد -مثلاً- فيمكن أن تتواطأ على الكذب بأمر ذلك القائد، لكن إذا كانت الجماعة من مختلف الأعمار والألسنة، ولم تخرج من مكان واحد، ولم تجمعها قيادة أمير واحد، فإن العادة تحيل تواطؤها على الكذب، ولا تحديد لعدد الجماعة، بل ذلك مما يتفاوت الناس فيه، فقد يحصل العلم اليقيني بخبر بعضهم ولا يحصل بخبر ضعف ذلك العدد لعدم حصول الثقة، فلهذا قال: وهو أن يروي جماعة -أي: أن يحدثوا- لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم، أي: لا تجيز العادة أن يتواطؤا على الكذب إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه، أي: أن يكون ذلك في كل طبقة، فيستوي طرفيه ووسطه في العادة والعدد.
استواء طرفيه: أي طرف الإسناد الأعلى وطرفه الأسفل، ووسطه: أي: ما بينهما من الطبقات.
في العادة: أي: أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
وفي العدد: أي: في حصول العدد أن يكونوا جماعة، فإن انفرد عدد يسير محصور في طبقة من الطبقات لم يعتبر ذلك متواتراً بل اعتبر آحاداً، وذلك مثل حديث: (إنما الأعمال بالنيات) فقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بقيد اللفظ والصحة عمر بن الخطاب وانفرد به، ورواه عن عمر بالقيدين السابقين علقمة بن وقاص وانفرد به، ورواه عن علقمة بالقيدين السابقين محمد بن إبراهيم التيمي وانفرد به، ورواه عن محمد بن إبراهيم بالقيدين السابقين يحيى بن سعيد الأنصاري وانفرد به، ثم رواه عن يحيى بن سعيد أكثر من سبعمائة نفس فتواتر بعد ذلك، وهذا لا يكون متواتراً؛ لأنه في بعض طبقاته انفرد به بعض الناس دون بعض.
وقوله: إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه.
أي: إلى نهاية الإسناد.
قال المصنف: [وَيَكُونُ فِي الأَصْلِ عَنْ مُشَاهَدَة] أي: أن التواتر لا يكون إلا عن الحسيات، فلا تواتر في العقليات، ولا في التجريبيات أي: العاديات، فلا يمكن أن يقال: تواتر لديّ أن السماء فوق الأرض، أو أن الواحد نصف الإثنين، وذلك في الأمور العقلية لا فائدة فيه، فلا عبرة بكثرة القائل في الأمور العقلية، إنما العبرة بصحة ذلك عقلاً وقبوله وتسليمه، ومثل ذلك في الأمور العادية، فلا عبرة بكثرة الناقلين فيها، إنما العبرة بالتكرار حتى يحصل القطع العادي به.
[عن مشاهدة أَوْ سَمَاعٍ] فلابد أن يكون ذلك عن محسوس بإحدى الحواس الخمس.
[لاَ عَنِ اجْتِهَادٍ] فلا عبرة بذلك؛ لأنه من الأمور التي مرجعها إلى العقل، فاجتهادات الأشخاص تثبت عنهم بأنهم قالوا ذلك فقط، لكن ذلك لا يقتضي ثبوت ما اجتهدوا فيه، ولا يقتضي صحة اجتهادهم، فالعبرة إذن بأن يكون المنقول مما أصله ومرجعه إلى الحس بإحدى الحواس الخمس.