فهذا العلم لا غنى لطالب العلم عنه البتة، يقول الشوكاني في مقدمة كتابه إرشاد الفحول: "وبعد: فإن علم أصول الفقه لما كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يلجأ إليه عند تحرير المسائل وتقرير الدلائل في غالب الأحكام، وكانت مسائله المقررة وقواعده المحررة تؤخذ مسلمةً عند كثيرٍ من الناظرين كما تراه في مباحث الباحثين، وتصانيف المصنفين، فإن أحدهم إذا استشهد لما قاله بكلمةٍ من كلام أهل الأصول أذعن له المنازعون وإن كانوا من الفحول؛ لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن وقواعده مؤسسةٌ على الحق الحقيق بالقبول، مربوطةٌ بأدلةٍ علميةٍ من المعقول والمنقول، تقصر عن القدح في شيءٍ منها".
الشوكاني يشيد بهذا العلم، ويشير إلى ما دخله مما كدره من مباحث علم الكلام، وأشار إلى أنه نقّح هذا العلم وهذّبه وحرّره، ولذا سمى كتابه: (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول).
وعلم الأصول لا إشكال في أنه دخله كثير من مباحث علم الكلام مما طالِب العلم في غنية عنه، وجد محاولات لتنقية هذا العلم وتصفيته من هذه الشوائب، لكن يبقى أن أكثر كتب الأصول مشتملة على كثيرٍ من المباحث التي طالب العلم ليس بحاجةٍ إليها، بل صارت سبباً في صد كثيرٍ من طلاب العلم عن تحصيل هذا العلم؛ لأنها أمور معقدة والحاجة إليها ليست داعية، وهذا يلحق بما أشرنا إليه سابقاً أن طالب العلم ينبغي أن يكون متوسطاً في الأخذ من هذا العلم، يأخذ ما يحتاج إليه ويعتني به بقدر الحاجة، وما عدا ذلك مما اشتملت عليه مطولات هذا الفن يبقى لأناس .. ، لطائفةٍ مخصوصة تعتني بهذا العلم لبيانه وإيضاحه.
إذا عرفنا هذا فالجادة المطروقة عند أهل العلم البداءة في العلوم كلها بالمختصرات؛ لأن عقل الناشئة لا يحتمل المطولات، وجاء عن ابن عباس في بيان معنى الرباني: أنه هو الذي يعلم الناس بصغار العلم قبل كباره؛ ليتمكن الطالب المبتدئ من حفظ هذه المختصرات وفهمها، ثم بعد ذلك يرتقي إلى ما بعدها مما يناسب الطبقة الثانية من طبقات المتعلمين، وهكذا يرتقي بعد ذلك إلى ما يناسب الطبقة الثالثة وهكذا.