قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210]].
قوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ) هذا الإتيان مضاف إلى الرب سبحانه وتعالى، والآيات التي ذُكر فيها إتيان الرب ومجيئه هي من أكثر الآيات التي أبطلها أهل التأويل، وتأولها عامة المتكلمين من المنتسبين إلى السنة وغيرهم، ودخل تأويل هذه الصفة وصفة المجيء على كثير من فضلاء أهل العلم، فقالوا: إن الإتيان هنا ليس إتياناً على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز، ثم ذكروا جملةً من المعاني المجازية.
وصفة الإتيان والمجيء وقع فيها من التأويل أكثر مما وقع في غيرها.
فإن قيل: أليس القاعدة عند المخالف تكون واحدة؟
قيل: المخالف ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مخالفاً نظاراً منتظماً على مذهبٍ واحد كنظار المتكلمين سواءٌ كانوا من المعتزلة أو غيرهم، وإما أن يكون من غير المتكلمين.
فإذا كان المخالف من أهل علم الكلام الذين انتظموا على وجه واحد، لم تضطرب قاعدته، وإن كان غير ذلك فقد تجده يثبت بعض الصفات وينفي بعضها؛ فبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة تجدهم يثبتون كثيراً من صفات الأفعال، فإذا ذكروا رحمة الله ومحبته وغضبه ونحو ذلك، ذكروها على الإثبات، لكنهم إذا ما أتوا لذكر صفة الإتيان، تأولوها، وكأنهم رأوا في هذه الصفة من عدم المناسبة لإثباتها أظهر مما وقع لهم في غيرها من الصفات.
فهذا الإتيان قد جاء ذكره في القرآن مضافاً إلى الرب سبحانه، فإنه يقول: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] ومحل هذا الإتيان هو يوم القيامة، وفي هذه الآية إتيان مضافٌ إلى الرب وإتيان مضافٌ إلى الملائكة، فالذين تأولوا هذا النوع من الصفات جعلوا الكلام فيه حذفاً، وقالوا: إن هذا من باب حذف المضاف، وتقدم الإشارة إلى أن هذا ممتنع من جهة اللغة ومن جهة العقل، وذلك أن المحذوف في لغة العرب وغير العرب يلزم أن يكون معلوماً، أما إذا كان المحذوف مجهولاً، بل كان المحذوف يمتنع العلم به، فإن هذا الحذف لا يجوز في خطاب الأخبار الإيمانية، بل هذا لا يقع إلا من مكذبٍ أو من قاصدٍ للتكذيب.
فإنك ترى أن هذا خبرٌ قصد الله سبحانه وتعالى من المكلفين أن يؤمنوا به، فإذا كان فيه محذوفٌ يمتنع العلم به، فإن التصديق به يكون ممتنعاً؛ لأن ظاهره ليس مراداً.
وإنما قلنا: إن المحذوف هنا ممتنع العلم؛ لأنه يمكن أن تقدر جملة من الأشياء.
فمنهم من قال: إن المقصود هنا: إتيان الملائكة، وهذا ينقضه آخر الآية؛ فإن الله يقول: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] ففرق بين إتيانه وبين إتيان الملائكة.
ومنهم من قال: إنما يأتي أمره، أو قضاؤه أو ما إلى ذلك.
فلما كان المحذوف متعدد الإمكان، عُلم أن تعيين واحد يكون ممتنعاً من جهة العقل ومن جهة اللغة نفسها، فلما امتنع العلم بالمحذوف دل على أن الخطاب على ظاهره.
فإنك هنا أمام أحد حقيقتين:
إما أن يكون الخطاب على ظاهره، وإما أن يكون الخطاب فيه حذف، فإذا كان الخطاب فيه حذفٌ -وإن كان أصله من جهة اللغة مسلماً- إلا أنه لا يمكن في هذا السياق؛ لأن العلم بالمحذوف ممتنع، والذي تحذفه العرب في كلامها، وكذلك غيرها من الأمم -فإن كل لغة بني آدم فيها حذف- إنما هو ما يعلم علماً واجباً، أو علماً ممكناً، أما ما كان العلم به ممتنعاً فإن هذا لا يحذف، وإلا لصح أن يفرض على كلام الناس أن فيه حذفاً.
فإذا كان المحذوف لا يدل عليه في السياق لحال من الأحوال، ولا يمكن العلم به، امتنع أن يقدر شيء محذوف، فوجب أن تكون الآية على ظاهرها؛ لأنها لو لم تكن على ظاهرها للزم ذكر محذوف يمتنع العلم به، فتكون الآية لم نعلم منها حقاً، وإنما علمنا منها تلبيساً ينافي كلام الرب سبحانه، وهذا مما ينزه القرآن عن ذكره.
بقي أن الإتيان المضاف إلى الرب سبحانه وتعالى: هو الإتيان الذي يليق به، وهذا كنزوله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر.
وقد يورد بعضهم في الإتيان ما يذكر في النزول من السؤالات، كقول من قال: إذا نزل هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟
فيقال: أولاً: إن مثل هذه السؤالات هي سؤالات مبتدعة لا يجوز ابتداؤها، فإذا ابتدأها أهل البدع، أمكن لعلماء السنة المحققين أن يجيبوا عليها بما تقتضيه أصول السنة والجماعة.
فإن ثمة فرقاً بين ما يذكر في أصول الدين والمعتقد تقريراً، وبين ما يذكر في أصول الدين والمعتقد رداً، فإن باب التقرير أضيق من باب الرد.
وكثيرٌ من الناس يخلط بين البابين، فلا يفرق بين ما يذكر تقريراً وما يذكر رداً.