قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]، وقوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]].
من صفاته سبحانه وتعالى (الرحمة)، وثمة فرق بين ذكر رحمته وبين ذكر محبته، فإن الله سبحانه ذكر رحمته صفةًَ، وذكر سبحانه أن من أسمائه: الرحمن، ومن أسمائه: الرحيم، ولم يجعل من أسمائه المحب، وما إلى ذلك، وذلك لأن مقام الرحمة أوسع من مقام المحبة، ولهذا تعلقت رحمته بجميع خلقه من المسلمين وغير المسلمين، بخلاف محبته، فإنها لم تتعلق إلا بأهل الإيمان والطاعة، وكأن هذا هو الفرق أو الموجب لكون المحبة لم تذكر في باب الأسماء، وإنما ذكرت في باب الصفات، بخلاف الرحمة فإنها ذكرت اسماً وذكرت صفةً، لأن الرحمة أوسع، بمعنى أنها متعلقة بسائر مَن خلق الله.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة -: (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدة، فبها يتراحم العباد، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأبقى تسعاً وتسعين يرحم بها عباده يوم القيامة)، وجاء في بعض الروايات في الصحيح: (إن الله خلق مائة رحمة)، وهذا لا يُشْكِل، ولا يجوز أن يكون حجة لمعطلة الصفات على أهل السنة، لأن الرواية الأخرى المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: (إن الله خلق مائة رحمة)، وتعلم أن صفات الله ليست مخلوقة، بل هي قائمة بذاتها.
فهنا قاعدة: (إن بعض ما ذكر صفة في القرآن أو في السنة، قد يذكر على معنى المفعول والأثر)، بمعنى أن الرحمة قد تذكر صفةً، وقد تذكر في مقام آخر، ويراد بها الأثر الذي يقع عن الرحمة، كقوله تعالى مثلاً: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50] فأنت تقول: إن هذه النعم هي آثار رحمة الله.
أليس كذلك؟
وعن السمع تقول: هذه رحمة الله أو نعمة من الله.
فهل السمع هو الصفة القائمة بذات الرب؟
كلا؛ لأن السمع أو البصر أو العقل أو الصحة أو ما إلى ذلك، هي أشياء مخلوقة.
فهذه تقول: إنها آثار لرحمة الله، فهذه الآثار تارةً تسمى آثاراً وتارةً تسمى باسم موجبها وهي الصفة، فتسمى نعمة أو رحمة أو ما إلى ذلك من الأسماء.
فقوله: (إن لله مائة رحمة) المقصود به الآثار (إن الله خلق مائة رحمة) أي مائة أثر، وهي الرحمة المخلوقة التي تقوم في نفوس الناس، وبها يتراحمون، قال: (وأبقى تسعاً وتسعين) أي من آثار رحمته، وإلا فإن رحمته سبحانه وتعالى لا تحد بعدد.
وفي قوله تعالى:: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] مسألة مهمة، وهي أن الله يكتب على نفسه، هذه جاء ذكرها في القرآن وجاء ذكرها في السنة في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب في كتاب عنده فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي).
وفي رواية: (إن رحمتي سبقت غضبي) والحديث رواه البخاري من رواية ابن عباس وأبي هريرة.
فهذه الكتابة المضافة إلى الله سبحانه وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ} [الأنعام:54]، (إن الله كتب في كتاب عنده) تثبت على ظاهرها، ولا تُتأوَّل؛ فإن القاعدة فيها كغيرها، أنها تثبت على ظاهرها.
وقد ذكر المتأخرون مسألة: هل للعباد على الله حق واجب، أم ليس كذلك؟
فتكلمت المعتزلة بقدر واسع من الإيجاب على الله، وذلك أن أفعال العباد عندهم مخلوقة للعباد، وأن الله يثيب العباد على محض أفعالهم، وليس من باب رحمته.
وهم قوم يبنون قواعدهم على المعاوضة، ولهذا توسعوا في إثبات الكتابة على الله بما لم يقع مثله في الشرع.
وبالغ قوم كالأشعرية ونحوهم بنفي ذلك.
والصواب أن ما ذكر مما ورد في النصوص في هذا الباب فهو حق على ظاهره.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حق العباد على الله؟ وما حق الله على العباد؟) فللعباد حق عليه سبحانه وتعالى أن لا يعذب من لم يشرك به؛ وهذا الحق ليس مما ينقص مقام الربوبية.