[وقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف:39]].
هذا إثبات لمشيئته، ومشيئته سبحانه وتعالى عامة لكل شيء، وهناك فرق بين المعاني التي ذكرت بها الإرادة وبين المعاني التي ذكرت بها المشيئة، فإن الإرادة تُذكر ويراد بها الأمر، وتذكر ويراد بها معنى المشيئة، وهو الذي يسمَّى عند بعض أهل السنة بالإرادة الكونية أو الإرادة القدرية.
[وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]].
يعلق الله سبحانه وتعالى سائر الحوادث بمشيئته، وهذا هو تحقيق ربوبيته سبحانه وتعالى، ومشيئته الشاملة لكل شيء تُذكر في القرآن: إما مجملةً وإما مفصلة، وتفصيلها لا يختص بالخير، بل في بعض أوجه الفساد في الأرض وأوجه الشر يذكر الله سبحانه وتعالى أن هذا بمشيئته وإرادته.
ولكنَّ الإرادة والمشيئة العامة -أعني: الإرادة الكونية- غير الإرادة الشرعية.
وخالف في ذلك خلق من الصوفية الذين وقعوا فيما يسمَّى بالفناء عن شهود السوى.
ولمزيد من الإيضاح أقول: إن الفناء على ثلاثة أقسام:
الأول: فناء عن وجود السوى، وهذا فناء غلاة الصوفية كـ ابن عربي وابن الفارض والتلمساني وأمثال هؤلاء.
الثاني: فناء عن شهود السوى، وهذا فناء متوسطيهم الذين يشهدون مقام الربوبية ويسقطون به مقام الألوهية -أي: مقام الأمر والنهي- وهؤلاء عندهم قدر من المعارضة بين القدر والشرع.
الثالث: فناء عن إرادة السوى، وهذا مقام توجد فيه مخالفة.
ويستعمل أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتابه (منازل السائرين) الذي شرحه ابن القيم رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين) شيئاً من الغناء عن شهود السوى؛ فـ أبو إسماعيل المعروف بشيخ الإسلام الهروي الحنبلي صاحب المنازل، وهو ذو مقام فاضل في الصفات، لكنه صوفي مغرق في التصوف، وعنده أصول أخرى من الأخطاء.
والإمام ابن القيم رحمه الله لمَّا شرح المنازل اعتذر كثيراً لـ أبي إسماعيل، وهذا الاعتذار الذي سلكه ابن القيم في مدارج السالكين كأنَّ بعضه ليس مناسباً، وينبغي أن يكون الحق أغلى وأعلى من قدر أبي إسماعيل الأنصاري أو غيره.
ولا شك أن الهروي رحمه الله كان من المجاهدين الصادقين في علمهم وفي ديانتهم، هذا فيما يتعلق بحكمه العام، وأما مآله فهو إلى الله، ولكنه ممن يُرجى له الخير الكثير، فإنه إمام وعالم وناصر للسنة في مقامات وصاحب ديانة.
ومقام التقريرات التي غلط فيها في كتابه صرفها ابن القيم رحمه الله -أو صرف كثيراً منها- إلى معاني تُناسب أهل السنة.
وهذا ليس من المناسب، بل كان الأنسب أن يُقال: إن الهروي أخطأ في هذا الكلام، فإنَّ المتكلم إذا تكلم بكلام على مرادٍ ما، وهذا الكلام من جهة حروف اللغة يمكن أن يحمل على مرادٍ آخر، فلا يحقُّ لمن نظر هذا الكلام أن يحمله على معنىً ممكن ومؤلِّفه وصانعه والمتكلِّم به قد أراد به مراداً آخر، بل يجب أن يقال: إنه غلط.
كما أن التلمساني -وهو المسمى بـ العفيف - قد تكلَّف في حمل كلام أبي إسماعيل على مراد غلاة الصوفية، فـ ابن القيم أبعده عن مرادات ضلاَّل الصوفية، والتلمساني أرجع كلام الهروي إلى مرادات الغلاة من الصوفية، وكان ينبغي أن يُوقف عند كلام الهروي على مراده، ويبيَّن أن مراده غلط، ولا سيما أنه استخدم ألفاظ الصوفية التي لا تحتمل التأويل ولا الاعتذار، خاصة أنه استخدم فصيح اللغة الذي فيه قدر من السعة في التعبير.
فما حصل في كتاب المدارج ينبغي أن يُتفطَّن له، ومن أخطاء الهروي كذلك أنه بالغ في تقرير بعض مقامات العبودية، وفي قصر النفس عليها.
وهذا التنبيه لا يُقصد منه التعليق على حال الإمام ابن القيم رحمه الله، لكن يُقصد منه أن كتاب المدارج -وهو كتاب في السلوك والتربية- كتاب شديد، أي: أنه لا يستطيع أن يقيم عليه حالاً شخص عنده تفرُّد أو عنده مقاربة لأحوال الصوفية وتفرُّداتهم.
بمعنى: أن من أراد أن يُطبِّق كتاب المدارج كتربية عامة للمسلمين، فإنه يجد أن تطبيقه عزيز جداً؛ لأن فيه تعلقاً بأحوال لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يذكرها للأمة، لأنها نوع من الإهلاك للنفس، فإن النفس كما ذكر الله شأنها في القرآن خُلقت على حالين: الخير والشر، والله سبحانه وتعالى ألهم هذه النفس فجورها وتقواها، ففيها قدر واسعٌ من الشر والقبول له، وفيها قدر واسعٌ من الخير والقبول له.
فالتدقيق في أحوال النفس من جنس التدقيق الذي كان عليه الحارث بن أسد المحاسبي قد يؤتي نتيجة فاضلة لبعض الخاصة، لكن العامة لا يستطيعونه، ولا سيما أن أهل السنة ليس عندهم طريقة للخاصة وطريقة للعامة، والهروي وجّه رسالته هذه للخاصة، فهو لم يوجهها لخاصة الخاصة، ولم يوجهها للعامة، لكن قصد بها الخاصة، وهم أصحابه من الصوفية، من ذوي الصُحبة العامة.
[وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1]].
الشاهد من سياق الآية هو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] فحُكْمه سبحانه وتعالى مبنيٌ على إرادته، والحكْم الأصل فيه: أنه الفصل بالحق.
لكن قد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) فذكر الحكْم في غير مورد الصواب.
فنقول: إنه الأصل فيه، بمعنى: أنه إذا أُطلق فإنه يراد به الصواب، ولكن إذا ذُكر في مقام الغلط فلا بد أن يكون مقيَّداً؛ ولهذا يقال: إذا حكم فاجتهد فأخطأ.
[وقوله: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]].
هذه إرادته سبحانه وتعالى العامَّة التي هي بمعنى المشيئة؛ لا بمعنى الأمر، فمعنى قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] من شاء الله هدايته شرح صدره للإسلام، ومن شاء الله ضلاله، فإنه يجعل صدره ضيقاً حرجاً.
وهذه الآية من كتاب الله سبحانه صريحةٌ في إبطال مذهب المعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعاله، وإن الله لا يهدي ولا يُضل؛ فإنها صريحة بأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهدايته فضل، وإضلاله عدل، فليس معنى: (أن الله يضل من يشاء) أنه يصرف قلب أحد أراد الإيمان عنه؛ فإنه لم يقع في الحس أن أحداً أراد الحق والإيمان إلا ويُسِّر له هذا المراد.