قال المصنف رحمه الله: [وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]].
قوله رحمه الله: (وقد دخل في هذه الجملة) يعني بـ (هذه الجملة) قوله: (وقد جمع فيما وصف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات).
فأراد المصنف هنا أن يبيِّن لك طريقة القرآن والحديث في ذكر الإثبات وذكر النفي، ولك أن تقول هنا: إن جمهور طوائف المسلمين يسلِّمون أن هذا الباب -أعني: باب الأسماء والصفات- مبنيٌ على الإثبات والنفي، فهذا في الجملة محل إقرار عند جمهور الطوائف.
ولكن طريقة أهل السنة والجماعة في هذه الجملة مبنيَّة على منهج القرآن، فإنه إذا قيل: إنه قد جمع سبحانه فيما سمَّى ووصف به نفسه بين النفي والإثبات، فإن ثمَّة طريقةً بينةً في كتاب الله في مقام الإثبات وطريقةً في مقام النفي، حيث أن المفصَّل ذِكْرُه في القرآن والحديث هو الإثبات، وأما النفي فإن الأصل فيه في القرآن هو الإجمال.
ولك أن تقول: إن الأصل في الإثبات هو التفصيل، وإن الأصل في النفي هو الإجمال، وإذا قيل: الأصل في الإثبات التفصيل؛ فإن الإثبات كذلك يقع مجملاً، ومجمله يُعلم ضرورة أنه لا يعارض المفصل؛ بل يدل عليه.
أما مجمل الإثبات في الأسماء، فهو قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] فهذا إثبات للأسماء الحسنى، ولكنه إثبات مجمل، وأما الإثبات المجمل للصفات، فهو قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] أي: الوصف الأكمل.
وقال قوم من أهل السنة والجماعة عند تفسير الآية وبيان معناها: إن كل كمال لا نقص فيه بوجهٍ من الوجوه ثبت للمخلوق، فإن الخالق أولى به.
فهذه قاعدةٌ مقرِّبة إلى بعض المعاني المناسبة، ولكن لك أن تعتبر أنها ليست قاعدة لازمة لفقه هذا الباب، وكأن الاستغناء عنها أولى؛ لأنه قد يعترضها بعض التطبيقات التي تُوجب كثيراً من الغلط عند بعض المطبِّقين لهذه القاعدة.
ولهذا ينبغي لطالب العلم ألا يبني فقهه على مثل هذه الحدود والضوابط التي تُسمى في بعض الكتب بالقواعد، فإذا ما قيل: (إنها قاعدة) انقدح في ذهن السامع لها أنها جامعة مانعة، وأنها قاعدة كلية، وأنها محكمة من جهة الشريعة ..
إلى غير ذلك؛ وإذا تحققت وجدت أنها حد ونظر مناسب، لكنه يحتاج إلى كثير من الفقه؛ إذ ربما تخلَّف نظرهم من جهة فقهها، فرتَّبوا عليها بعض التطبيقات التي لا تناسبها، فهي قاعدة صحيحة، ولكنها ليست من أصول القواعد في هذا الباب ..
فهذا مقام الإثبات المجمل.
وأما الإثبات المفصل الذي قلنا: إنه الأصل في الإثبات، فهو ما تراه في كتاب الله مفصلاً لأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته؛ كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} [الحشر:23] وكقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] إلى آخره، وكمفصَّل الصفات في قول الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا} [المائدة:119] وغير ذلك.
وأما النفي فإن الأصل فيه الإجمال، كقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] وقد يقع النفي في القرآن مفصلاً كقول الله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] وقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي موسى رضي الله عنه: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام).
وسبب ورود النفي المفصل في القرآن أو في شيء من السنة، هو وجود قدر من المناسبة التي تستدعي ذلك، وهو يُذكر في مقام يستلزمه أو يستدعيه، أما أن يكون منهجاً مطرداً، فهو ليس كذلك في الكتاب أو في السنة.
وما من إثبات مفصَّل إلاَّ ويستلزم نفياً مفصَّلاً، أو يتضمنه، وإن كان لم يصرح بذكره، فإن ذكر العلم يستلزم نفي الجهل، من باب أن العلم والجهل متقابلان، وثبوت أحد المتقابلين يسلتزم نفي الآخر.
[وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]].
ابتدأ المصنف رحمه الله بذكر سورة الإخلاص لوجوه، من أخصها: أن هذه السورة قد جُمع فيها بين النفي والإثبات، ولأن هذه السورة فيها ذكرٌ للإثبات المفصَّل والإثبات المجمل، وفيها ذكر للنفي المفصَّل وللنفي المجمل.
فهذه السورة ذُكر فيها النفي بمقاميه، والإثبات بمقاميه، فقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] * {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] هو إثبات مفصل لاسمين من أسماء الله: (الله)، (الصمد).
فإن قال قائل: فأين الإثبات المجمل؟
قلنا: الإثبات المجمل هو في هذين الاسمين، فإنهما باعتبار كونهما من أسمائه المختصة (الصمد) و (الله) هو وجه كونهما في مقام التفصيل، وأما وجه كونهما في مقام الإجمال، فباعتبار أن هذين الاسمين فيهما دلالة عامة على الكمال؛ ولهذا سائر أوجه الكمال تكون مناسبة لهذين الاسمين، ولك أن تقول: إن أوجه الكمال المطلقة التي تليق بالله سبحانه وتعالى يدل عليها هذان الاسمان من باب دلالة اللزوم، فإن الله لما قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ} [الإخلاص:1] عُلم أنه متكلم ..
لماذا؟ لأنه سمَّى نفسه الله، أي: المألوه المعبود محبةً وتعظيماً، والذي يُعبد محبةً وتعظيماً لا بد أن يكون متكلماً.
فمن هنا رأيت أن هذا الاسم -وهو (الله) - فيه دلالة على مقام الإجمال باعتبار أنه يستلزم الكمالات.
فإن قال قائل: وما الدليل على أنه يستلزم الكمالات؟
قلنا: لأن معناه يستلزم الكمالات من الصفات، والدليل على هذا: أن الله لما ذكر عبودية قوم موسى للعجل قال: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] فدلَّ على أن مقام الاستحقاق للعبودية يقتضي أن يكون المعبود متكلِّماً.
ومن هنا نقول: إن هذين الاسمين -أعني: الصمد والله- هما في مقام التفصيل، وهذا بيِّن، ولكنهما كذلك في مقام الإجمال، أي: الدلالة على الكمالات؛ فإن عامَّة ما ذكر من مفصل الكمالات يكون متضمناً أو مستلزماً لهذين الاسمين؛ ولهذا نقول: إن اسم الله دلَّ على الكلام، وإن اسم الله دلَّ على السمع والبصر، والدليل على ذلك أن الله هو المألوه المعبود، ولا بد أن يكون سميعاً بصيراً، ولهذا قال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42].
وتضمَّنت هذه السورة النفي في مقامين: المجمل والمفصَّل، فقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] هو نفيٌ مجمل، وقوله سبحانه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] هو نفيٌ مفصل.
فكانت هذه السورة جامعة في باب التوحيد؛ فهي جامعة لمعنى الألوهية في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ} [الإخلاص:1] وجامعة لمعنى الربوبية في جملة سياقها، وجامعة لمعنى الأسماء والصفات حسبما تقدم، فتضمنت تحقيق التوحيد في موارده الثلاثة: الألوهية والربوبية والأسماء والصفات على أتمِّ تحقيق؛ ولهذا سميت هذه السورة بسورة الإخلاص.
قال المصنف: (التي تعدل ثلث القرآن).
أما أنها تعدل ثلث القرآن فهذا ثابت في السنة، وقد تكلَّم العلماء في معنى كون هذه السورة تعدل ثلث القرآن، ومن أشهر أقوالهم المعروفة والمذكورة في كتب الشروح للعقيدة الواسطية وغيرها: إن القرآن ينقسم إلى خبر، والخبر منه قصص وعقيدة تتعلَّق بمعرفة الله وألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأحكام.
فهي ثلاثة أقسام: القصص والمعتقد -وهو الإيمان بالله ومعرفته- والأحكام، وهذه السورة تضمنت المعتقد، وإن لم يذكر فيها القصص ولا مفصَّل الأحكام، والقرآن جاء على هذه الأقسام الثلاثة.
فإذا فُسِّر هذا الحرف النبوي بمثل هذا المعنى فإنه يكون لائقاً به، وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا لا يستلزم أن يكون تحصيلاً محضاً لمراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فربما كان مراده عليه الصلاة والسلام أوسع من ذلك.
فالظاهر أنها تعدل ثلث القرآن باعتبار الأجر؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيعجزُ أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟) فلما سأله الصحابة قال: ((قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن) فكأن هذا في مقام الثواب.
ولك أن تقول: إنه يمكن أن يكون مراده صلى الله عليه وآله وسلم في مقام المعاني وفي مقام الثواب، ولكن إذا حُمل مراده عليه الصلاة والسلام على مقام الثواب، فثمَّة مسألة لا بد منها، وهي: هل من قرأ (قل هو الله أحد) يكون له من الأجر ما يثبت لمن قرأ عشرة أجزاء من القرآن ويكون مماثلاً له، وإنما يتفاضلان باعتبار عوارض من الحال المقترنة بهما كأن تقول: إن هذا أخشع وهذا أكثر إخلاصاً، لكن باعتبار أصل العمل؛ فإن الأجر بينهما على التماثل المطلق، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تعدل ثلث القرآن)؟
الجواب: لا ..
لأن النصوص ليست صريحة بأن المراد من حرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو مقام الثواب ..
هذه جهة.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أيعجز أحدكم) قيل: هذا وجه ممكن أنه أراد الثواب، ولكن لعلَّه عليه الصلاة والسلام أرا