أولاً: حتى لا يرى في كلام شيخ الإسلام، أو حتى في كلام ابن القيم؛ وإن كان ابن القيم تارة يخلط بعض المعاني مع بعض، ولكن باعتبار كلام شيخ الإسلام رحمه الله، ولا بأس أن أقول هذه الكلمة ليس من باب الطعن على ابن القيم رحمه الله، ولكن بعض الذين ردَّوا على الشيخين -أعني: ابن القيم وابن تيمية رحمهم الله- في المسألة تتبعوا كلامهم فوجدوا أن ابن القيم رحمه الله يستعمل الإقرار لمسألة الحقيقة والمجاز كثيراً في كلامه، ومن هنا قال قوم من المتتبعين: إنه تناقض؛ فهو ينفي الحقيقة والمجاز تبعاً لشيخه، ولكنه يطبقها في كلامه، ويصرِّح بمسألة الحقيقة والمجاز كثيراً.
والتحقيق أن أكثر ما أثبته الإمام ابن القيم حين يذكر الحقيقة والمجاز هو من باب التقسيم اللفظي، ولكنه أحياناً قد يُدخل عليها شيئاً من الأثر المتعلق بمعاني الألفاظ، وليس بمجرد صورها اللفظية.
أما فيما يتعلق بـ شيخ الإسلام فإن منهجه في هذه دقيق، وشيخ الإسلام له كلمات أحب أن تكون مقدمة بين يدي الجواب عن مسألة الحقيقة والمجاز، فهو يقول: (مسألة الحقيقة والمجاز إما أن يُنظر فيها باعتبار كونها من عوارض الألفاظ، فهذا اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، وإما أن يُنظر فيها باعتبار كونها من عوارض المعاني، فهذا هو القدر الذي ينازع فيه أرباب النظر من المعتزلة وغيرهم).
إذاً: القدر المنكر عند شيخ الإسلام في مسألة الحقيقة والمجاز ليس هو صورها اللفظية، أو مصطلحها اللفظي؛ ففي قوله تعالى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] لك أن تقول: إن هذا من المجاز اللغوي، باعتبار أن المقصود: سل أهل القرية.
فتسمية ما يقع من هذا النوع مجازاً هو اصطلاح، كما أن المصطلحين سموا الفاعل والمفعول والحال والتمييز ..
إلى غير ذلك.
وإنكار شيخ الإسلام لذلك هو باعتبار كون هذا التقسيم من عوارض معاني اللغة، وهذا هو مراد المتكلمين في تقريرهم.
فنقول: إن هذه النظرية نظرية الحقيقة والمجاز- لا تصح لغةً، بل هي ممتنعة من جهة اللغة، وامتناعها حين تتأمل تعريف المتكلمين للحقيقة والمجاز، فقد قالوا: إن الحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له.
هذا التعريف للحقيقة والمجاز تضمن ذكر الوضع وذكر الاستعمال، وكأن بين الوضع والاستعمال اختلافاً، فإذا قرأت تعريف المجاز تبين لك أن هؤلاء يفرقون بين وضع اللغة وبين استعمالها ..
فهم يفرضون أن ثمة فرقاً بين وضع اللغة وبين استعمالها، والسؤال هنا: من الواضع للغة؟ ومن المستعمل؟
السؤال الثاني: أيهما أسبق الوضع، أو الاستعمال؟
السؤال الثالث: ما مثال الوضع في اللغة؟ وما مثال الاستعمال؟
هذه سؤالات ترد على النظرية وتشكل عليها، فيتبين أنها فاسدة من جهة اللغة.
السؤال الأول: ما الفرق بين الوضع وبين الاستعمال؟
السؤال ليس له جواب محصِّل لنتيجة؛ فإذا قالوا: إن الواضع للغة هم العرب، وإن المستعمل للغة هم العرب؛ قلنا: لا يمكن أن يحصل فرق في الخارج بين الوضع وبين الاستعمال؛ فما الذي يجعل هذا النطق العربي وضعاً، وذلك النطق العربي الآخر استعمالاً؟!
ومن هنا احتاج القوم -ولا سيما منظِّري المعتزلة من أهل اللغة- إلى البحث في مبدأ اللغات، ومن أين جاءت اللغة.
ففي كتب أصول الفقه -ناهيك عن كتب علم الكلام وبعض كتب اللغة- نجد بحثاً في مسألة مبدأ اللغة، فقيل: إنها من آدم، وقيل: إنها من تعليم الله لآدم، وقيل: إنها من تعليم الملائكة، وقيل: إنها من الجن.
وسائر هذه الأقوال غاية ما يقال فيها: أنها أقوال ممكنة، لكن يمتنع الجزم بواحد منها.
وقول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة:31] نؤمن به على وجهه، لكن تسلسل اللغات وكيف تحصلت هو أوسع مما يدل عليه قول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31].
وقد يقال: إن الاستعمال هو استعمال العرب، وعلى الترتيب الزماني: الوضع يسبق الاستعمال؛ فالوضع هو الأول ثم جاء الاستعمال؛ وغاية ذلك أن الاستعمال معلوم وهو استعمال العرب، أما الوضع فهو مجهول، ولا يمكن أن يبنى المعلوم على المجهول؛ فإن المجهول لا يفيد بذاته؛ فمن باب أولى ألا يكون مفيداً لغيره.
وإذا تتبعت كلام محققي المعتزلة -وهم أئمة النظر في هذا الباب- وجدت أنهم يقولون: إن الوضع هو الكلمة المفردة، وإن الاستعمال هو الكلمة المركبة، بمعنى أنك تقول: اللفظة كاليد -مثلاً- هي التي يسمونها وضعاً، والمركب يسمونه استعمالاً، فهم حتى لا يلتزموا مسألة القدم التاريخي التي لا يستطيعون اكتشافها، قال بعض محققيهم: إن المسألة ليست مبنية على التعاقب التاريخي، إنما هي مبنية على أننا نريد بالاستعمال الجمل المركبة كقولك: جاء زيد، فهذا يسمونه استعمالاً، وأما كلمة: (زيد) أو كلمة (جاء) فيسمونها وضعاً.
فيقال لهم: إن هذا أيضاً من باب الممتنع تحصيلاً؛ لأنه لا يعقل أن عربياً يقول: يد، ويسكت؛ بل لا يوجد في لسان بني آدم لا من العرب ولا من غيرهم كلام على هذه الطريقة.
فهذا تكلف على اللغة، لا حقيقة له في الخارج؛ لأنه لا أحد ينطق بلسان لا عربي ولا غير عربي إلا وهو يتكلم بجملة، ولا يعقل أن أحداً يتكلم بلفظ مفرد، إلا في حالة واحدة: إذا قال حرفاً مفرداً، سواء كان اسماً أو فعلاً أو صفة؛ لأن بقية الجملة معلوم تقديراً؛ فإذا قيل له: كيف زيد؟ قال: حسن.
فإنه قال: حسن؛ ولكن التقدير: زيد حسن، وحَذْفُ ما يعلم جائز باتفاق ألسنة بني آدم، ولا أحد ينازع في هذه البديهة العرفية، فعند بني آدم كلهم أن المعلوم من الكلام يحذف، وهذا ليس خاصاً بلغة العرب، بل هو في كل لغات بني آدم.
إذاً: على هذه الطريقة لا يوجد لغة إلا استعمالاً، ولا يوجد لغة تسمى وضعاً.
وقال بعض محققيهم لإثبات الوضع: إننا إذا نظرنا اللغة وجدنا أن العرب تقول: اليد، وتريد بها الجارحة، وتقول: اليد، وتريد بها في سياق آخر النعمة، والجواب عن هذا ليس مشكلاً، فنقول لهم: ما المانع عقلاً ولغةً أن يراد بهذا اللفظ أكثر من معنى، والسياق نفسه هو الذي يحدد واحداً من هذه المعاني.
فإن قالوا: إن اللفظ الواحد لا يكون إلا لمعنىً واحد، ولا يكون لبقية المعاني، قيل: هذا تحكم على اللغة، فإن اللفظ الواحد يمكن عقلاً ولغةً أن يدل على أكثر من معنى؛ أما عقلاً فإن العقل لا يمنع ذلك، وأما لغةً فإن العرب إذا تأملت كلامها وجدت أنها تستعمل الحرف الواحد أو الكلمة المفردة الواحدة في أكثر من سياق، وفي كل سياق تدل على معنى.
فإن قالوا: الدليل على أن هذه اللفظة تستعمل في معنىً واحد كحقيقة وفي البقية كمجاز، أن اللفظ إذا أطلق تبادر منه معنىً أخص، فإذا قيل: يد، لا تتبادر النعمة، وإنما تتبادر اليد الجارحة، قيل: إن اليد إذا أطلقت فالتحقيق العقلي يقول: إنه لا يتبادر أي معنى منها، فالعقل لا يعين لها معنى لكونها لفظاً مجرداً، ثم لو سُلِّم جدلاً أن الذهن يتبادر إليه ابتداءً -إذا قيل: يد اليد الجارحة- فهذا باعتبار أن استعمال هذا اللفظ بهذا المعنى هو الأكثر في اللغة، فلكثرته ولشيوعه صار هو المتبادر، والكثرة والقلة ليست ميزاناً لمسألة: وضع اللفظ لهذا المعنى أو ذاك.
وما المانع أن لفظ (اليد) وضع في اللغة لأكثر من معنى، فاللغة لا تمنع ذلك، والعقل لا يمنع ذلك.
إن قالوا: إذا كان وضع لأكثر من معنى فما الذي يحدده؟
نقول: الذي يحدده السياق، ولن نحتاج عندها إلى دليل صارف؛ فإن اللفظ إذا وضع لمعاني مختلفة، فإن السياق نفسه يستلزم تحديد واحد من المعاني، قد يكون المعنى المحدد هو الشائع كاليد الجارحة، وقد يكون غيره.
فحين قال عروة بن مسعود لـ أبي بكر: (لولا يد لم أجزك بها لأجبتك).
ما تبادر إلى ذهن أحد ممن سمعوا هذه الكلمة أو قرءوها أن عروة يقصد اليد الجارحة التي يزعم القوم أنها هي الحقيقة في لفظ اليد، وهي الأكثر استعمالاً، بل إن حَمْلَ كلام عروة بن مسعود على اليد الجارحة حمل ممتنع؛ بمعنى أن تفسير الكلام به ممتنع.
ولهذا يمتنع أن كلاماً عربياً يقبل أكثر من معنى مختلف إلا لأحد موجبين: إما أن يكون الناظر فيه ليس عنده كمال في تحقيقه؛ فربما تردد في أكثر من معنى، وإما أن يكون المتكلم بهذا السياق لم يذكره فصيحاً بيِّناً، ومعلوم أن القرآن يمتنع أن يقال فيه: إنه ليس فصيحاً بيِّناً، ويمتنع أن يقال: إن المسلمين عجزوا عن فهم كلام الله على معنىً مناسب؛ لأنه إذا كان كذلك، فإن الكلام بذاته لا يكون بيِّناً.
وأصل نظرية المجاز والحقيقة باعتبار كونها من عوارض المعاني من المعتزلة، وأما باعتبار كونها من عوارض الألفاظ، فهذا استعمله قوم كـ أبي عبيد القاسم بن سلام وأبي عبيدة معمر بن مثنى، واستعمله الإمام أحمد وجملة من الناس، وهذا -كما أسلفت- اصطلاح، وهم يريدون بقولهم: (مجاز اللغة) ما تجوزه اللغة وتأذن به، أما باعتبار كونها من عوارض المعاني فهو منطق اعتزالي أُدخل على اللغة.
ومن هنا يتبين أن هذه مسألة مفتاتة على اللغة، فإذا قال: فما يقول القوم فيه أنه حقيقة ومجاز ما حقيقته في اللغة؟
أقول: إن عامة ما قال أصحاب نظرية الحقيقة والمجاز باعتبارها من عوارض المعاني أنه من باب المجاز هو في اللغة لا يخرج عن نوعين:
النوع الأول: لفظ مشترك اسُتعمل في غير معنى باعتبار تعدد السياق، كلفظ اليد؛ فإنه وضع لأكثر من معنى، وكلفظ العين وضع لأكثر من معنى ..
وهلم جراً.
وقد يكون هذا اللفظ له ثلاثة من المعاني هو في أحدها أظهر، وقد يكون متساوياً بين المعاني.
فأحياناً قد يكون الاشتراك اشتراكاً محضاً يستلزم قدراً من التساوي في المعاني، وقد يكون اللفظ في أحد المعاني أظهر.
إذاً: القسم الأول مما قال القوم فيه أنه من باب المجاز هو ألفاظ من ج