التأويل عند أهل البدع يراد به صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة.
وهذه القاعدة وهي قاعدة التأويل -ويجب أن ندرك أنها قاعدة أكثر من كونها تعريفاً أو رسماً لاسم من الأسماء- من أخص قواعد المخالفين للسلف في باب الأسماء والصفات.
فإن أول من أحدث نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى هم الجهمية، وشاركهم في هذا المعتزلة، وهم مادة واحدة في هذا الباب.
لم يكن نفي القوم من أوائل النظَّار لصفات الباري ناشئاً عن نظر في كتاب الله سبحانه وتعالى، فحصَّلوا منه نفي الأسماء أو نفي الصفات أو نفي ما هو منهما؛ ولكن القوم يخالفونك في الجواب؛ بل هم يصرحون بأن النصوص لم تنطق بالنفي، وإنما نطقت بالإثبات، ولكنهم تأولوا نصوص الإثبات ولم يتأولوا نصوص النفي؛ فنصوص النفي كقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] ليس فيها نزاع بين أحد من المسلمين؛ فهي على ظاهرها أو على وجهها؛ إنما الذي هو مورد النزاع هو نصوص الإثبات.
فهم إنما أرادوا إثبات المعتقد الذي يعتبرونه معتقداً للمسلمين؛ فاتخذوا هذه الطريقة المسماة بطريقة المتكلمين، وهذا يبين لنا مسألة مهمة؛ وهي أن الفرق بين أهل السنة والجماعة وبين سائر الطوائف ليس مبنياً على آحاد النصوص، بل هو مبني على الأصول أو ما يسمى بالمنهج.
قد يقول قائل: لم اتخذوا طريقة علم الكلام وتركوا الطريقة التي عليها أئمة السنة والحديث؟
فأقول: هذا لضعف فقههم في طريقة أهل السنة، ولسببٍ مهم آخر قد لا يكون مشهوراً، وهو أن القوم أرادوا تقريب هذه الطريقة إلى قوم من الزنادقة والفلاسفة الذين لا يدينون بالإسلام أصلاً، فأرادوا الرد عليهم بتقرير عقيدة المسلمين بنفس مادتهم ..
وهذا هو أول إشكال وقعت فيه المعتزلة وأمثالها، وهو أنهم أرادوا إثبات معتقد المسلمين والرد على الفلاسفة بنفس مادة الفلاسفة التي سموها علم الكلام الذي نقول: إنه محصل من الفلسفة من جهة جوهره، وإن كان فيه قدر من الشريعة واللغة والعقل، فهذا القدر هو باعتبار تفريعه أو ما يتعلق بمسائله وبحوثه.
فأرادوا ذكر معتقد المسلمين، فبدءوا بمسألة وجود الرب سبحانه وتعالى، فلما أراد القوم إثبات وجود الرب سبحانه وتعالى، قالوا: الدليل على وجوده هو وجود العالم، والعالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، وظنوا أن هذا هو قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] وثمة فرق بين دليلهم على إثبات وجود الرب سبحانه وتعالى وبين طريقة القرآن، فإن قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ليس هو في مورد إثبات وجود الرب؛ فإن هذا بديهة؛ بل هو في مورد إثبات جملة من معاني الربوبية التي لم يحقق الإيمان بها جملة من المشركين ..
فهنا فرق بيِّن.
وبعد أن قال هؤلاء: إن الدليل على ثبوت وجوده هو حدوث العالم، أرادوا إثبات حدوث العالم، فإن منازعيهم من الفلاسفة يقولون: إن العالم قديم، فأراد هؤلاء إثبات حدوث العالم، فبم استدلوا على حدوث العالم؟
هنا انقسموا إلى قسمين:
- تعداد جهميتهم ومعتزلتهم قالوا: إن الدليل على حدوث العالم هو اتصافه بالصفات التي سموها الأعراض.
- تعداد متكلمة الصفاتية منهم كـ ابن كلاب والأشعري والماتريدي: إن الدليل على حدوث العالم هو اتصافه بالحركة، وأنه لا يبقى على زمان واحد.
فأثبتوا وجود الله بهذه الطريقة التي عليها جملة من الإشكالات:
أولاً: أنها طريقة مُتكلَّفة.
ثانياً: أنها استلزمت عندهم لوازم باطلة.
ثم جاءوا إلى صفات الباري سبحانه وتعالى، فلم يمكن للجهمية والمعتزلة أن تثبت صفات الله على طريقتهم؛ لأن دليل حدوث العالم عندهم هو اتصافه بالصفات، فلزم أن يكون الرب على خلاف هذا العالم؛ فلو أثبتوا صفات الله -على زعمهم- لوصفوه بالحدوث، ومن هنا نفوا الصفات.
ثم لما جاء الأشعري وترك الاعتزال وأعلن توبته منه، تمسك بأصل الاعتزال في باب الصفات، وقال: إن الدليل على حدوث العالم هي الأعراض والصفات، ولكن ليس جميعها، وإنما المتحرك منها، فالدليل على حدوث العالم: أنه متحرك ولا يبقى زماناً واحداً ثابتاً.
وهذا مما يبين لك غلط من يقول بأن الأشعري رجع إلى معتقد أهل السنة، بل المسألة فيها تفصيل.
فإن الأشعري -ومن قبله ابن كلاب - وكذلك قرينه -أعني: قرين الأشعري - الماتريدي، التزموا نتيجة لهذه القاعدة نفي بعض الصفات، وهي كل صفة من صفات أفعال الرب المتعلقة بمشيئته وإرادته، ومن هنا نفى القوم من هؤلاء أو هؤلاء: إما سائر الصفات، وإما صفات الأفعال المتعلقة بالقدرة والمشيئة.
ومن هنا وقع الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية والكلابية فيما يسمى عند أهل السنة بالتعطيل، وهو نفي الأسماء والصفات أو نفي الصفات أو نفي جملة من الصفات.
وقد نفى أولئك القوم الصفات أو ما هو منها وهم لم ينظروا في دليل القرآن: أهو مثبت للصفات أم ناف لها.
فلما نفوا الصفات على هذا الدليل الذي جعلوه مثبتاً لحدوث العالم -وهو ما يسمى عند القوم بدليل الأعراض- رجعوا إلى القرآن، فوجدت المعتزلة أن القرآن يثبت الصفات لله، ونتيجتهم التي يرون أنها لازمة لإثبات وجود الله تقول بالنفي، وكذلك لما رجع ابن كلاب والأشعري والماتريدي إلى القرآن وجدوا أن القرآن في أكثر من مائة موضع؛ كما يقول الرازي من الأشاعرة؛ يقول: (إن القرآن في أكثر من مائة موضع يثبت مسألة الحركة) أي: الأفعال المتعلقة بالقدرة والمشيئة.
فوجد هؤلاء وهؤلاء أن القرآن خالف نتيجتهم العقلية.
مما سبق يتبين أن القوم نفوا الصفات أو نفوا ما هو منها لا تفريعاً عن أدلة من القرآن؛ بل بناءً على أصل باطل ابتدعوه.
ومن هنا كان خلاف هؤلاء في الصفات يختلف عن خلاف الخوارج .. ، وذلك لأن الخوارج لما كفَّروا مرتكب الكبيرة استدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192] ..
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] بخلاف هؤلاء، فليس عندهم على نفي الصفات أو ما هو منها أدلة مفصَّلة من القرآن؛ بل المعتبر عندهم دليل واحد، وهو ما يسمى بدليل الأعراض؛ وهو دليل ليس له أصل في الشرع ولا معنى في لغة العرب؛ إنما هو منقول من الفلسفة التي كان عليها جملة من الملاحدة اليونان، وهذا الدليل أنتج عند المعتزلة والجهمية وأمثالهم نفي الصفات، وأنتج عند ابن كلاب ومن وافقه كـ الأشعري وأبي منصور الماتريدي نفي صفات الأفعال.
فلما رجع القوم إلى كتاب الله ..
وجدوه يخالف ما هم عليه، فأرادوا أن من تهمه مخالفتهم له؛ فأما السنة فإنهم يخرجون منها بمخارج كثيرة، من أخصها: جهلهم بالسنة؛ فإن كثيراً من النصوص لا يعرفونها، وحين نقول: جهلهم بالسنة؛ ليس من باب التجني عليهم، فإن عامة أهل الكلام من أجهل الناس بالسنن والآثار، وفيهم جهل واسع بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن آثار الصحابة.
ثم ما يثبتونه من السنة يخرجونه على مورد الظن وأنه من باب الآحاد، وأنه لا يحتج بالآحاد في العقائد
إلخ.
ولكن لما نظروا القرآن وجدوا أن للقرآن تفصيلاً على خلاف طريقتهم؛ فرجعوا إلى لغة العرب؛ فحصَّلوا من لغة العرب نظريةً زعموها أصلاً في اللغة وهي محدثة، وإن شئت فقل على سبيل التنزل: إنها بدعة في اللغة، فكما أنك تقول: إن هذه بدعة في الشرع، فهذه بدعة في اللغة، ذلك هو ما زعموه بأن اللغة منقسمة إلى حقيقة ومجاز، فاستدعوا مسألة الحقيقة والمجاز ليبنوا عليها قانون التأويل الذي يقول: صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة.
وصرف نصوص الصفات عن ظاهرها إلى معاني لا يشترط عندهم فيها إلا شرط واحد، وهو أن يكون المعنى الذي صُرف اللفظ إليه لا يتعارض مع مذهبهم.
لقد وجدوا أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الصفات على التفصيل في كتابه، فأرادوا بمسألة التأويل أن ينفوا إثبات القرآن للصفات، وأن يجعلوا القرآن غير معارض لطريقتهم التي نفوا بها الصفات أو ما هو منها، فقالوا: إن سائر ما أثبته القرآن من الصفات والأفعال، فإنه يؤوَّل؛ بمعنى: يُصرف من الحقيقة إلى معنىً مجازي.
فقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] مشكل على طريقة القوم؛ لأنهم يقولون: إن الله لا يتصف بفعل، وهذا متفق عليه بين الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم؛ لأن العالم يتصف بالفعل.
فهم لذلك يلجئون إلى التأويل بأن يقولوا: إن المقصود جاء ملك، فإذا كان المجيء متعلقاً بملك، فإن هذا لا يعارض قاعدتهم في نفي الصفات؛ لأن الملك جزء من العالم المخلوق، والعالم المخلوق يتصف بالأفعال؛ فهذا هو معنى التأويل عندهم؛ صرف الألفاظ التي ملئ القرآن بذكرها عن ظاهرها إلى معاني لا تتعارض مع ما أصلوه.
وهذا يبين لنا أن القوم لم يستعملوا لغة العرب لفهم القرآن بها عند تقريرهم للمذهب -أي: لمذهبهم-، بل كان ذلك لدرء معارضة القرآن لمذهبهم.
إذاً: هم وضعوا المذهب كاملاً بعيداً عن لغة العرب، وبعيداً عن دلالة القرآن والسنة!
وهذا يكفي المسلمين خاصةً وعامةً دليلاً على فساد هذه الطريقة، وأنها طريقة مخترعة مخالفة لطريقة الرسل، وأن طريقة نفي الصفات تخالف حتى طريقة أهل البدع الأخرى كالمرجئة والخوارج؛ فإن هؤلاء على ما فيهم بنوا كثيراً من أقوالهم على مفصل من القرآن فهموه غلطاً؛ بخلاف هؤلاء؛ فإنهم بنوا المذهب كاملاً خارجاً عن اللغة؛ فإن دليل الأعراض ليس مبنياً على ذوق العرب، فالعرض في لغة العرب معناه شيء ومعناه عند المتكلمين شيء آخر، والجوهر عند العرب معناه شيء ومعناه عند المتكلمين شيء آخر
إلخ.
فهو دليل غير مبني على اللغة ولا على النصوص، إنما هو منقول من الفلسفة.
ولكن لما تحصَّل