بدعة نفي الصفات أحدثها الجعد والجهم وأمثالهما، وهذا باعتبار العلم التاريخي، وقد يكون هناك من تكلم بها قبلهم ممن لم ينضبط النقل عنهم.
فهذه البدعة أحدثها الجعد والجهم، لكن الذي نظرها وقررها وأشاعها هم أئمة المعتزلة، الذين انضبطت لهم مدرسة في العراق، ودخلت على كثير من الأمصار في فارس وبلاد ما وراء النهر.
والمعتزلة -فضلاً عن الجهمية الغالية الذين ينفون الأسماء والصفات- لم يقع لهم في كتبهم أنهم اعتبروا نفي صفة من الصفات بآيةٍ من كتاب الله فضلاً عن حديث من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو معتبرٌ بما يسمى دليل العقل، وهو دليل الأعراض.
وهذا الدليل عبارة عن نظرية مولدة على أحسن تقدير، ومعنى هذا الكلام أن هذا الدليل مركب من جمل شرعية عامة، وجمل عقلية عامة، لكن هذه الجمل العقلية الكلية أو الجمل الشرعية الكلية لا تؤثر في نتيجة هذا الدليل، إنما المؤثر في نتيجة هذا الدليل هو القسم الثاني منه، وهي المقدمات الفلسفية التفصيلية، المتلقاة عن أرسطو أو غيره.
فالذين تكلموا في نفي صفات الرب سبحانه وتعالى إما من الجهمية والمعتزلة، وإما من الفلاسفة المحضة كـ ابن سينا وابن رشد وأمثالهم، وإما في نفي ما هو من الصفات كمتكلمة الصفاتية من الأشعرية وغيرهم؛ هذه الطوائف في نفيها لما نفته ترجع إلى ثلاثة من الأدلة الفلسفية الكلية:
الدليل الأول: دليل الأعراض، وهو أشهر هذه الأدلة، وهو المستعمل عند جمهور المعتزلة وجمهور متكلمة الصفاتية.
الدليل الثاني: دليل التركيب، وهو الغالب على طرق الفلاسفة كـ ابن سينا وابن رشد.
الدليل الثالث: دليل التخصيص، وقد انتحله بعض المتأخرين من متكلمة الصفاتية كـ أبي المعالي الجويني ونحوه.
ومن طريف الحال أن دليل الأعراض لم يستدل به نفاة الصفات فقط، بل حتى المشبهة من المتكلمين قد استدلوا به، فإن المتكلمين وإن كان جمهورهم معطلة نفاة للصفات إلا أن خلقاً منهم على طريقة التشبيه والتمثيل، فـ محمد بن كرام -وهو من المجسمة- كان من أرباب علم الكلام، الذين يعتبرون دليل الأعراض.
فأقوال المجسمة، بل وحتى المشبهة كـ هشام بن الحكم وأمثاله من متقدمي الشيعة الرافضة، وكذلك المعطلة من نفاة الصفاة أو ما هو منها؛ مدار أقوال جميعهم على دليل الأعراض في الجملة، ومتفلسفتهم يستعملون دليل التركيب، وبعض متأخريهم يستعملون دليل التخصيص.
ودليل الأعراض دليل فلسفي باعتبار جوهره، وإن كان فيه جملٌ عقلية كلية وجمل شرعية كلية، وذلك مثل قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وهذه جملة كلية يستعملها معطلة الصفات في مثل هذا الدليل، وأما تفاصيل الدليل وحقيقته فإنها مقدمات فلسفية منقولة.
فعلم الكلام وإن لم يكن فلسفة محضة -بل فيه جمل من الشريعة وفيه جمل من العقل، ولهذا تجد أن أصحابه تأولوا الشريعة والنصوص إليه- إلا أنه مولد من الفلسفة، أما فيه من الجمل العقلية أو الشرعية فإنها ليست مؤثرة في الجملة في نتائجه، وإنما نتائج هذا العلم من نفي صفات الرب سبحانه وتعالى معتبرة بالمقدمات الفلسفية، ولا يعترض معترض بأن أئمة النظار ككثير من أئمة المعتزلة كانوا يردون على الفلاسفة في مسألة قدم العالم وغيرها -فلا شك أن المتكلمين لهم ردود مشهورة على الفلاسفة- لكنهم وإن ردوا عليهم إلا أنهم قد انتحلوا كثيراً من مادتهم وأصولهم.
إذاً: هذه البدعة -بدعة نفي الصفات- ليس لها أصل في نصوص الأنبياء، فإن قال قائل: إنا إذا نظرنا كتب المعتزلة وجدنا أنهم يستدلون على نفي الصفات بشيء من مفصل النصوص، كقول الله تعالى في الرؤية: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143].
نقول: القاعدة السالفة على وجهها: أن المعتزلة لا تستدل على قول من أقوالها في الصفات بمفصل النصوص، وأما هذان الدليلان فإن المعتزلة تعتقد وتقرر في مذهبها أن رؤية الله سبحانه وتعالى ممتنعة، بمعنى أننا لو سلمنا جدلاً أن قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] بمعنى: لا تراه الأبصار، وأن هذا في الدنيا والآخرة، لو سلمنا جدلاً بهذا المعنى، فهذا المعنى ليس هو مذهب المعتزلة، لأن المعتزلة عندهم مذهب زائد يستلزم هذا الأصل وما فوقه، بمعنى: أن هذه الآية لو سلمنا جدلاً أنها تقتضي نفي الرؤية على الإطلاق فإنه ليس فيها إلا نفي الرؤية، لكن المعتزلة تقول: إن الرؤية ممتنعة، وتعلم أن الشيء المنفي يبقى غيباً، فقد ينفى لامتناعه، وقد ينفى لعدم إرادة الله له، أو لعدم قيام سببه؛ فإن النفي لا يلزم منه أن الشيء ممتنع؛ فلو كانت المعتزلة صدقت في الوقوف على الاستدلال بالآيتين لقالوا: الرؤية منفية بآية الأنعام وآية ذكر موسى لكن -الله أعلم- هل هي ممكنة في حق الله أو ممتنعة؛ فإنهم لو قالوا بهذا المذهب لقلنا: اشتبهت عليهم النصوص كما اشتبه قول الله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [السجدة:20] على الخوارج، لكن المعتزلة تكفر في كتبها من يعتقد أن الرؤية ممكنة وإن قال بنفيها؛ لأن مجرد القول بالإمكان يستلزم -عندهم- أن الله في جهة، والقول بالجهة يستلزم أن الله جسم، وكل هذا يعتبر عندهم من الكفر الصريح بالله سبحانه.
فيتبين عند التحقيق أن القوم لا يستدلون على قولهم بمفصل، ومن هنا استعملوا ما يسمى بالتأويل لنصوص الأسماء والصفات، وما استعملوا التأويل إلا لكون النصوص من الكتاب والسنة لا توافق قاعدتهم العقلية الكلامية، ولو كانت توافقها ما احتاجوا إلى ما يسمى بالتأويل.
بل فوق ما يسمى بالتأويل تحصل عندهم قانون صريح: عند تعارض العقل والنقل، يعنون بالعقل علم الكلام الذي هو العلم الفلسفي المنقول إلى المسلمين.
أما أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: إن العقل لا يعارض النقل، لكن العقل الذي قرره المعتزلة يعارض النقل؛ لأنه عبارة عن نظرية قررها قوم -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- ليسوا مشركين في الألوهية فحسب، بل هم من أئمة الملاحدة في الربوبية، فهي منقولة عن أرسطو طاليس وغيره، الذي لا يثبت رباً خالقاً للعالم، -وإن كان أرسطو يعتبر من أقربهم إلى دين الأنبياء- فضلاً عن المثاليين كـ أفلاطون وغيره.
فهذا العقل الذي زعموه هو الفلسفة التي نقلوها وقربوها إلى دين المسلمين؛ ولهذا ظهر عندهم هذا القانون تعارض العقل والنقل، ولا شك أنهم أتوا بضلال، وبكفر، وبزندقة نقولها إلى المسلمين، وبالطبع فإن الباطل والحق يقع بينهما التعارض ولا بد.
ولهذا لما جاء محققوهم -وأعني بكلمة (محققيهم) من يصرحون بحقيقة هذا المذهب الذي أحدثه الجهم والجعد والمعتزلة- المصرحون من أصحاب هذا المذهب، منعوا التأويل، وأبطلوا مسألة التأويل، كما هي طريقة ابن سينا الذي قال: إن القرآن مليء بإثبات الصفات، وليس فيه إشارة إلى التوحيد أصلاً -أي: إلى الحق أصلاً- ولهذا جعله كتاباً للعامة، وليس كتاباً للخاصة.
فهذه البدعة لا بد أن يعرف فيها هذا القدر، وإذا عرف فيها هذا القدر، فهي من جهة أصلها نقول: إنها بدعة كفرية زندقية دخلت على هذا الوجه.
لكن إذا جئنا إلى الأعيان، فإنه يقال: إن بدعة نفي الصفات دخلت على خلقٍ ممن يعرف عنهم أنهم من أهل الديانة والإسلام مع ما فيهم من الظلم والتقصير والبدعة والخطأ، فجمهور من تكلم بهذه البدعة من متكلمة الصفاتية وجمهور المتأخرين من المعتزلة الذين انتسبوا للفقهاء؛ لا يضافون إلى الزندقة والكفر، فإن ثمة فرقاً بين المقالة وبين أصحابها.
فإن المقالة قد تكون في حال كفراً وزندقة، ثم يدخلها قدر من الاختلاط والشبهة وما إلى ذلك، أو ينتحلها بعض من انضبط علمه أو انضبطت ديانته عند المسلمين، فتشتبه عليه ويظن أنها من مقالات العلم والإيمان؛ ولهذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن بدعة الجهمية التي اتفق السلف على أنها كفر دخلت على خلق من أهل العلم والإيمان، قال: (بل دخلت على خلقٍ ممن هم من أهل الولاية عند الله سبحانه وتعالى).
ولهذا فإن الطريقة التي اعتمد عليها أبو إسماعيل الأنصاري الهروي ومن يدور في فلكه من المتأخرين في تكفير الأشعرية هي طريقة مبالغ فيها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن أبا إسماعيل الأنصاري الهروي مبالغ في ذم الجهمية وتكفيرهم) فإذا كان هذا الحكم في قوله عن الجهمية فمن باب أولى قوله في الأشعرية، مع أن الهروي نفسه -مع أن له كثيراً الفضائل- عنده بدع لو أخذ بها على منهجه لربما لزمه حكم يقارب الحكم الذي ألزم به الأشعرية.