إن الحديث عن هذه الرسالة وعظمها وفائدتها يطول، لكن أحب أن أشير إلى ثلاث خصائص فيها:
الخاصية الأولى: أنها رسالة جامعة؛ فإن ثمة رسائل في أصول الاعتقاد للشيخ -أي: لـ شيخ الإسلام - وغيره ممن قبله أو بعده من علماء السنة والجماعة لكن كثيراً من هذه الرسائل مختصة بباب من أبواب أصول الدين، كالرسالة الحموية لـ شيخ الإسلام نفسه، فإنها مختصة بمسائل الأسماء والصفات، وكبعض الرسائل المصنفة في القدر أو مسمى الإيمان أو غير ذلك من مسائل الاعتقاد.
أما هذه الرسالة فهي رسالة جامعة، ذكر فيها المصنف جمهور مسائل أصول الدين، ولا سيما المسائل التي حدث فيها نزاع بين أهل القبلة، وإن كان رحمه الله فصَّل في باب الأسماء والصفات تفصيلاً لم يفعل مثله في غيره من الأبواب، وذلك لعظم شأن هذا الباب ولكثرة الاختلاف فيه؛ ولأن الاختلاف فيه هو أخص مسائل الخلاف بين أهل القبلة، فإن سائر الأغلاط التي وقعت عند الطوائف في مسائل أصول الدين لا يقع لها من الشأن والتغليظ ما وقع لأقوال المخالفين في مسائل الإلهيات -مسائل الأسماء والصفات-.
الخاصية الثانية: أنها رسالة متأخرة في الجملة، فهي ليست من الرسائل المكتوبة زمن الأئمة المتقدمين، مع أن القراءة في كتب المتقدمين لها اختصاص من وجهٍ آخر ولها فضل السبق، لكن هذه الرسالة كتبها إمام متأخر في الجملة، أي: أنها كتبت بعد استقرار مقالات الطوائف في عقائد المسلمين، ومسائل أصول الدين؛ فإن المقولات المأثورة عن سلف الأمة من المتقدمين لم يقع فيها ذكر لمخالفة متكلمة الصفاتية من الكلابية والماتريدية والأشعرية وغيرهم؛ فجاءت هذه الرسالة منبهةً إلى تميز مذهب السلف، ليس فقط عن المذاهب التي عرف عن المتقدمين أنها مخالفة للسنة والجماعة كالجهمية والمعتزلة والقدرية وغيرها، والتي انضبطت مخالفتها، بل جاءت كذلك مميزة له عن كثير من الأقوال والمذاهب التي انتسب أصحابها إلى السنة والجماعة؛ فإن جمهور متكلمة الصفاتية من المنحرفين عن هدي السلف ينتسبون إلى السنة والجماعة، فجاءت هذه الرسالة مبينةً لهذا الوجه الذي وقع من جهته معظم الانحراف الذي دخل على أصحاب الأئمة الأربعة.
فإنك إذا نظرت إلى أتباع الأئمة الأربعة من المتأخرين، رأيت جمهور هؤلاء معرضين إعراضاً بيناً عن مقالات البدع المغلظة التي تحدث فيها أئمة السلف رحمهم الله كبدع الجهمية المحضة، أو بدع المعتزلة المحضة، أو بدع القدرية المحضة.
مع أنه قد دخلت عليهم مقالات متكلمة الصفاتية في مسائل أصول الدين.
وهذا الدخول إما أن يكون اتباعاً محضاً لهذه المذاهب، وهذه طريقة متكلمة الفقهاء من الأحناف والشافعية والمالكية، وإما أن يكون تأثراً عاماً، وهذه طريقة مقتصديهم ممن تأثر بهذه المذاهب المخالفة للسنة والجماعة.
الخاصية الثالثة: أن مصنفها رحمه الله كتبها بلسان الشريعة، أي: تقصد في مسائلها وحروفها ألفاظ الشريعة ومسائلها؛ وقد بين رحمه الله ذلك في رسالته، وهذا المنهج بيِّنٌ من خلال قراءة هذه الرسالة.
وهذه الرسالة يمكن القول فيها: إنها شرحٌ للإيمان الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المتفق عليه، فإن المصنف لما ذكر مقدمته قال: أما بعد ..
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، قال: وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
وهذا الأصل الجامع للإيمان هو الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل، وهو مجمل ما ذكره الله سبحانه وتعالى في خواتيم سورة البقرة.
فجاء المصنف شارحاً لهذه الأحرف الشرعية، وقصد في شرحها أيضاً الأحرف الشرعية، فالرسالة بعيدة عن اللغة الكلامية أو المنطقية، كما أنها بعيدة أيضاً عن لغة الرد، فإن معظم هذه الرسالة بلغة التقرير لمعتقد أهل السنة والجماعة.
ولا شك أن ثمة فرقاً بين لغة الرد وبين لغة التقرير لمسائل الاعتقاد.
وهنا أنبه إلى أنه قد يقع لبعض من يقرر في مسائل أصول الدين، أو يتحدث عن ذلك في كتاب أو درس، أو من يشتغل من طلبة العلم بدراسة معتقد أهل السنة والجماعة؛ أنه يقع لبعض هؤلاء بعض القصور في إدراك مسائل الاعتقاد، وذلك أن بعضهم يتناول المسائل على لغة الرد، والأصل أن المعتقد يؤخذ تقريراً، أي: يؤخذ جملاً من كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف، وأما الرد فإنه لا يتناهى؛ فإن البدع والاختلاف والمعارضة والخروج عن أصول السنة والجماعة لا يمكن أن يتناهى بزمنٍ أو بجملٍ معينة.
فهذه الرسالة هي رسالةٌ مقررة لمعتقد أهل السنة والجماعة، وأما الرد فإنه درجة ثانية يشتغل به فيما بعد.
لذلك لم يذكر المصنف أسماء الطوائف إلا على قدر الحاجة؛ وذلك حين يقصد تمييز مقولة أهل السنة والجماعة عن غيرهم.
وقد قصد المصنف بكتابة هذه الرسالة بلسان الشريعة أن تكون مقربةً للنفوس، فإن في زمنه رحمه الله شاع مذهب متكلمة الصفاتية، لكنه مع هذا لم يذكر مذهب الأشعرية بالتصريح، وإنما أبان أن طريقة السلف تختلف عن طريقة هؤلاء المتأخرين، فهو يشير إليهم ببعض الأسماء المجملة التي ليس فيها تخصيص لهم، وقصده من هذا رحمه الله: أن تكون رسالته جامعة لهم على قول الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والإجماع الذي يصرح المحققون من الأشاعرة بأنهم يقصدون إليه.