قال المصنف رحمه الله: [ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل].
يستعمل المصنف رحمه الله طريقة الإدخال على هذا الأصل الشريف الذي هو أخص الأصول، وهو الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
قول المصنف رحمه الله: (ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم) استعمل المصنف رحمه الله لفظ الوصف، مع أن هذا اللفظ لم يرد في القرآن، ولا في جمهور الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا في بعض الروايات التي اختلف موردها عند المحدثين، بمعنى أنه: قد يتعذر الجزم بأن هذا التعبير هو الحرف الذي عبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا فإن أبا محمد ابن حزم رحمه الله لما ذكر في كتابه (الفصل) ما يتعلق بمعتقد أهل السنة والجماعة في مسائل الأسماء والصفات، كان مما ذكره أن هذا اللفظ لفظ مخترع، لا يضاف إلى الرب سبحانه وتعالى؛ لأنه لم يرد في الكتاب والسنة ..
وهذه طريقة متكلفة من أبي محمد ابن حزم، فإن هذا الإمام مع سعة علمه وسعة فقهه وفضل ديانته رحمه الله إلا أنه لما ذكر تقرير المعتقد عند أهل السنة والجماعة اختلط الأمر عليه في كثير من الأبواب.
فهو من جهة ذم البدع والرد على أهل البدع من سائر الطوائف قد أغلظ في الرد حتى على الطوائف التي لم يغلظ عند محققي من أهل السنة المتأخرين شأنها بدرجة التغليظ الذي قاله ابن حزم، وكذلك المقالات التي لم يغلظ في شأنها بعض أئمة السنة الكبار.
ومع هذا فإن ابن حزم في هذا الباب شديد التمسك، لدرجة أنه وقع له قدر من الزيادة فيه، أعني: في الامتداح والحث على التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة، والذم للمذاهب المخالفة، فإن من طرق ذمه أنه يكفر بعض الأعيان من المخالفين، وهذه الطريقة ليست مستعملة في كلام متقدمي من السلف، كما أنه قد يزيد في ذم بعض الأقوال بما لم يقع مثله في كلام السلف أو في كلام محققي أهل السنة والجماعة كـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فهو في باب الانتساب لمذهب أهل السنة والجماعة محقق، بل عنده زيادة في التحقيق أيضاً، لكنه في باب التقرير مقصر.
هنا مسألة أحب أن ينتبه لها ولا سيما عند المتأخرين: وهي أن ثمة فرقاً بين الانتحال وبين التقرير، فإن طائفة من المتأخرين من أصحاب الأئمة ينتحلون السنة والجماعة، لكنهم يقصرون عند تقريرها، ففرق بين مقام تقرير المذهب وبين انتحاله -أي: الانتساب إليه- والولاء له والذم لمخالفه ..
فهذا الأخير سهل التحصيل في الغالب، لكن الشأن الأعظم في تقرير جمل الحق وتفاصيلها.
وهذا نجده عند أبي محمد ابن حزم، فإنه إذا انتهى إلى التفاصيل فإنه يبتعد عن الصواب، ومن أخص ذلك -بل هو أخص باب غلط فيه- باب الأسماء والصفات، فإنه انتهى فيه إلى نتيجة مركبة من مقالات أهل السنة والجماعة ومن مقالات المعتزلة، بل بعض طرقه -كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله- هي من طرق الفلاسفة التي لم تصرح بها حتى المعتزلة.
إذاً: قوله في هذا الباب قولٌ مختلف وملفق ومركب من غير مادة، ولهذا لا يعتبر قوله في باب الأسماء والصفات؛ فإن غلطه فيه أكثر من صوابه، ولكنه رحمه الله في باب الإيمان والأسماء والأحكام قال كلاماً حسناً، وذكر معتقد أهل السنة والجماعة بصورةٍ حسنة، وإن كان حتى في هذا الباب -أعني باب الأسماء والأحكام ومسمى الإيمان- عنده غلط فيه، لكن صوابه أكثر من خطئه فيه، فطريقته ليست منتظمة على جهة واحدة.
إذاً: عند التحقيق فإن أبا محمد رحمه الله ليس ممن يؤخذ عنه التفاصيل، وكأن هذا -والله أعلم- هو المنهج اللائق بهذا الإمام حتى في فقهه؛ فإنه رجل محقق في النظر والبحث وتتبع الدليل، ولكن من جهة منهجه الفقهي فضلاً عن منهجه العقدي فإنه يقع له تقصير كثير.
ولهذا فإن من اعتبر منهجه رحمه الله على طريقة الاستفادة بعد النظر في أقوال السلف وفي أقوال الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة وأئمة الاجتهاد من متقدمي السلف فإنه يقع له استفادة كبيرة من كلام ابن حزم: من تبيين بعض الأدلة أو التعليق عليها أو حسن الاستدلال أو المعارضة أو ما إلى ذلك.
ومن تأثر بطريقة ابن حزم في الفقه فضلاً عن الاعتقاد فإنه في الغالب يقع عنده كثير من الغلط والشذوذ والتقصير، والذي يعجب منه أن من يتأثر بطريقة ابن حزم لا يوافق ابن حزم على بعض أصوله، فمثلاً: ابن حزم لا يعتبر القياس، ومع ذلك فإن من تأثر بطريقته في الفقه لم يعتبر طريقته في الأصول، فإنه يرجح كثيراً من المسائل باعتبار أن الدليل فيها عند الفقهاء هو وجه من القياس، والقياس ليس معتبراً في الاستدلال عنده.