الجهة الثانية في مسألة الولاية: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما كانوا يعنون بتخصيص بعضهم بمقام الولاية؛ لأن مقام الولاية حقيقته أنه مقام عبادي أحوالي، يتعلق بأحوال القلوب، وهذا الباب وإن كان يدرك بالاستفاضة أو بالشهادة إلا أنه في حقيقته باب غيبي، بمعنى أن المعين للولي هو الله سبحانه وتعالى.
والذي كان عليه السلف الأول من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يعينون بالعلم، هذا هو الذي درج عليه السلف، أما الصوفية -أو أكثر الصوفية- فإن الولاية يكون لها أشبه ما يكون بالنظام والدستور العلمي أو العملي عندهم، فتجد الجانب الوراثي الشخصي المتعلق بالنسب، وأن هذا أبوه كان هو الولي، فتتحدر الولاية فيهم كابراً عن كابر، وهذا كله من الجهل والغلط على الشريعة.
ومثله التخصيص لأناسٍ بأنهم هم الأولياء لمظاهر أو لدرجة يظهرونها من المقام، ويُتبرك بهم على هذا التقدير وما إلى ذلك، فأكثر هذا التخصيص لا وجه له، إنما التخصيص الممكن هو التخصيص الظاهر من جنس التخصيص الذي كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن فلاناً اشتهر بالعلم، وفلاناً اشتهر بالجهاد، وفلاناً اشتهر بالفقه، وهذا بحفظ الحديث ..
وهلم جراً، وكل هذه المقامات العلمية والعملية هي من مقامات الولاية.
أما تقسيم المجتمع بأن هؤلاء هم السادة الأولياء، وهؤلاء هم المريدون التبع، والمسألة مسألة ترقي، والولي هو الذي يحكم لهذا المريد أو لهذا المتقدم أنه وصل إلى درجة كذا، ثم يتصعد إلى أن يصبح ولياً، فهذا كله جهل بالشريعة؛ فإن الذي يقبل الولي ولياً هو الله، وقد يكون هذا الولي من العامة وهو عند الله من الأولياء، فهذه الطرق المترقية عند الصوفية لا شك أنها من البدع المحدثة في تسمية الولاية.
فمن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، والكرامة قد تقع لغير الولي بالمفهوم الخاص، فهي تقع للمؤمن؛ ولذلك لو كان التعبير: ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات المؤمنين لكان صحيحاً؛ لأن الكرامة ليست ملازمة للولاية، والولاية قد تتحقق لمن لم تقع له كرامة، ولا يقول بغير هذا إلا غلاة من الصوفية: أن من شروط الولي عروض الكرامات له.
فالكرامة مرتبطة بالإيمان، وهذا لا ينافي قول أهل السنة أو قول أهل العلم عموماً أن الكرامة للولي، فالمؤمن هو الولي، ولكن ينبغي أن يعبر بأن الكرامة تكون للمؤمن كما يعبر أنها تكون للولي، فيذكر التعبيران قطعاً لهذه الشبهة المترتبة في عقول الصوفية، والتي دخلت على كثير من عامة المسلمين ولا سيما في البيئات التي يكثر فيها التصوف: أن الكرامات هي خصائص لقوم بلغوا درجة الولاية، حتى ربما أظهرت لهم الشياطين بعض هذه الخوارق، وزينتها لهم فظنوا أنهم أولياء، فضلوا وأضلوا.
ولذلك قد تعرض الكرامة من كرم الله سبحانه وتعالى لبعض المسلمين، فقد تدركه رحمة حتى لو كان عنده بعض المعاصي، قد يكون في انقطاع من السبل مثلاً فتدركه كرامة من الله بإجراء ماء أو بجرية ماء بين يديه أو ما إلى ذلك، وهذا قد يعرض.
فالكرامة حقيقتها أنها عون إلهي ونعمة إلهية، والكرامة ليست مجازاة على الثواب المطلق، نعم هي لا تكون إلا لمؤمن، وهذا الشرط ثابت، لكن ليس معناه: أن من كان في حاله شيء من النقص يمتنع وجود الكرامة في حقه، إنما شرطها الإيمان الصادق.
ثم هناك فرق بين الكرامة التي تعرض على نوع من حفظ النفس كمن انقطعت به السبل، وبين الكرامة التي تحصل لولي على مقام من النصرة التي يلحقه أتباع بها، فهذه لا تعرض إلا لمن هو أهل لها.