الرد على شبهة المعتزلة في إنكار الكرامات

هاتان المقدمتان كلاهما مما ينازع فيه، فإن النبوة وإن كانت تثبت بالمعجزة والآية، وهذا اسمها الشرعي: أنها آيات الأنبياء، فإن النبوة لا يقتصر ثبوتها على المعجزات، فهي تثبت بالمعجزات وتثبت بغيرها، فمن المعلوم أن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ودخلوا دين الإسلام ممن لقيه أو حتى ممن بلغه دين الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيراً منهم يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويسلمون بذلك لما يسمعون في دينه من التوحيد أو من الأمر بمكارم الأخلاق، أو ما إلى ذلك، وإن كانوا حال إيمانهم ودخولهم في دين الإسلام لا يلزم بالضرورة أنه بلغتهم عنه صلى الله عليه وسلم معجزة من خوارق العادات، وإنما قد يبلغهم ذلك فيما بعد، أو ربما أنه بلغهم، ولكن يكون سبب إيمانهم هو الأول.

إذاً الصواب الذي عليه جمهور المسلمين وهو إجماع عند السلف أن النبوة تثبت بالمعجزة وبغيرها من الدلائل الموجبة للتصديق، ومن الدلائل الموجبة لتصديق النبي والرسول أنه يدعو إلى توحيد الله، ويدعو إلى الأخذ بشريعة الله سبحانه وتعالى.

إذاً: المقدمة الأولى عند المعتزلة ليست صواباً، لأنه لو كانت النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة للزم من ذلك أن يكون الإيمان بالنبي معلقاً على العلم بالمعجزة، ولو كانت النبوة لا تعرف إلا من جهتها، للزم أن يكون إيمان الذي يسلم أو يدخل هذا الدين بالنبي مستلزماً للعلم بدليل النبوة وهو المعجزة، والأمر ليس كذلك.

فإن قيل: فمن يسلم أيقال إنه أسلم دون أن يعلم دليل النبوة؟ قيل: لا، كل من يسلم فقد علم ما هو من دليل النبوة، فمن أسلم لكونه رأى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إلى إفراد الله في العبادة، فهذا أسلم على دليل من دلائل النبوة، وهو أن من دلائل صدق النبي أنه يدعو إلى التوحيد، كما أن من دلائل صدقه ما يجريه الله على يديه من المعجزات، فهذا دليل، وهذا دليل ..

إذاً: هذا هو الرد على المقدمة الأولى.

المقدمة الثانية: لو فرض جدلاً أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة فإن هذا لا يوجب أن تكون الكرامة منفية حتى لا تلتبس بالمعجزة، فإن الفرق بين الكرامة والمعجزة هو متحصل من جهة الفرق بين النبي وبين الولي، وهذا الفرق الأضبط الذي يمكن أن يكون مدركاً حتى للعامة من المسلمين، إذا قيل: ما الفرق بينهما؟ قيل: الفرق المنضبط أن هذه المعجزة تحصل لنبي، وهذه تحصل لولي، ويمتنع أن الولي يدعي بها النبوة، فإنه لو فرض أنه ادعى بها النبوة لما أمكن في نفس الأمر أن يكون ولياً، بل هذا يكون كذاباً دجالاً.

فإذا قيل: إن هذا قد يخشى منه دعوى النبوة، قلنا: هذا يمكن فرضه في الخوارق التي تحصل من الكهان؛ لأنهم قد يعملون الأعمال الخارقة التي يستعملون فيها الشياطين، فيدعون بها شيئاً من الغيب أو شيئاً من النبوة أو شيئاً من مقامات الربوبية أحياناً، أما الولي فإن ذلك ممتنع في حقه؛ لأن ولايته تمنع أن يكون مدَّعياً بها، ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام من دلائل نبوته أنه يدعو إلى التوحيد، وقد سأل هرقل أبا سفيان: (بم يأمركم؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدقة والصلة والعفاف).

فكانت هذه من موجبات كونه نبياً صادقاً.

إذاً هذا الالتباس الذي فرضه المعتزلة ممتنع: ممتنع من جهة المقدمات النظرية، وأما من جهة الوجود الحسي فهو كذلك؛ لأن الموجب الذي طرأ عند المعتزلة لمنعها يلزم اطراده في الخوارق التي تحصل عند السحرة والكهان وأمثالهم من الكذابين، ومعلوم عند سائر الخاصة والعامة بل حتى عند غير المسلمين أن الكهان والعرافين والمدعين للعلوم الغيبية هم ممن يستعملون الشياطين سواء ممن ينتسب لهذه الأمة الإسلامية أو ممن هو خارج عن أمة الإسلام من عبدة الأوثان من أهل الهند التي تكثر فيها مثل هذه الوسائل أو غيرهم، فيحصل لهؤلاء الكذابين من الكهان ونحوهم كثير من الخوارق الظاهرة عند العامة، وحقيقة أمرها أنها مما تعمله الشياطين لهم، فإن الشياطين -كما هو معروف في القرآن- قد أقدرهم الله على ما لم يقدر عليه البشر؛ ولذلك كان لسليمان من الشياطين من يغوصون له، وقصتهم مع سليمان معروفة، {قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39] ومثل هذا خارق للعادة.

فمثل هذه الأعمال التي تصدر بواسطة الشياطين أمر لا يستطيع أحد أن ينكره ..

لكونه موجوداً في هذه الأمة وفي غيرها -أي: في المنتسبين لهذه الأمة وفي غيرهم-، فهذا القول هو من إنكار الحسيات، فإن هذه المعارف من علوم السحر وعلوم الطلاسم وما إلى ذلك كانت مشهورة حتى في عصر المعتزلة، وعلماء المعتزلة مطلعون على مثل هذه الكتب، ولا سيما أن بعضها كان مترجماً من فلسفة الهند وغيرها.

فهذا كله من التكلف في إنكار ما هو من الحسيات مع أنه لا موجب له من جهة النظر فضلاً عن الشرع، فإن الله ما نفى هذه الكرامات في القرآن، بل في القرآن والسنة ما هو إثبات لها، وأما هذا الموجب الذي فرضوه فلو فرض صدقه أمكن ذلك في خوارق السحرة والكهان؛ لأن الكذاب من الكهان ونحوهم قد يدَّعي بخارقه اختصاصاً من جهة الديانة، فيدعي صفة ربانية أو نبوية أو ما إلى ذلك، أما الولي فإن هذا الادعاء يمتنع في حقه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015