قال رحمه الله: [ويثلثون بـ عثمان، ويربعون بـ علي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة قد اختلفوا في عثمان].
وإن كان هذا الإجماع فيه تردد من جهتين:
الجهة الأولى: أن المصنف رحمه الله يقول: لكون الصحابة أجمعوا على تقديم عثمان في البيعة، فهذا -والله أعلم- ليس محققاً من جهة كونه إجماعاً؛ لأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما استشار المسلمين في علي وعثمان، وهما بمنزلة متقاربة، فمن المتعذِّر والبعيد كثيراً أن كل الصحابة سيقولون: نريد عثمان، إنما ظاهر الأمر والقريب من العقل والإمكان، هو أن أكثرهم اختار عثمان وبعضهم أشار بـ علي، ومن المعروف أن بعض الصحابة كان يميل لآل البيت، ويرى أن علياً أولى بهذا، وعلى أقل الأحوال آل البيت أنفسهم كان مجموعة منهم موجودة، فمن المتعذر أن الصحابة إذ ذاك كانوا قد حصلوا إجماعاً.
قد يقول قائل: إن مراد شيخ الإسلام بالإجماع هنا أن أغلبهم أطبق على ذلك.
فهذا يمكن أن يوجه بهذا التوجيه، لكن يبقى أنه ليس من الإجماعات القطعية أن الصحابة أطبقوا إطباقاً كلياً، إنما ظاهر الأمر أن جمهور الصحابة إذ ذاك قدموا عثمان، وإلا فإن الستة الذين جعلها عمر فيهم وهم أفضل الصحابة إذ ذاك في الجملة، حصل من هؤلاء أن أحدهم خرج فبقي خمسة، وهؤلاء الخمسة بقي منهم الثلاثة: علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، أما سعد والزبير فقد جعل أحدهما أمره لـ علي والآخر جعل أمره لـ عثمان، فظهر أن من الصحابة من كان يقدم علياً.
إذاً: المسألة ليس فيها إجماع، إنما كان مراد الشيخ رحمه الله الأكثر، أو أن مراده أنهم أجمعوا عليه خليفةً بعد بيعته، فهذا لا يسمى إجماعاً على هذا الوجه، فحتى لو أجمعوا على علي بعد خلافته فإنه يقال: قد حصل الإجماع عليه.
والذي أريده من هذا: أن الاستدلال على فضل عثمان بكونه إجماعاً فيه تعذر، ولو فرض أنه إجماع فهو إجماع في البيعة والخلافة، وليس إجماعاً في الفضل، ولا شك أنه إذا قيل: من الخليفة بعد عمر؟ قيل: عثمان بالإجماع، لكن هل هو الأفضل؟ لا يلزم، والله يقول: {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، وشيخ الإسلام نفسه يقول: إنه في مسائل الولاية يعتبر الأمانة الدينية والقوة، يقول: وإذا وجد من فيه القوة وقدر يكفي من الأمانة فهو أولى ممن غلبت أمانته الدينية وقلت قوته السلطانية؛ لأن هذا لا يسوس الناس، فقد يعتبر في التقديم في مسألة الخلافة بالأقوى وبمن يجتمع الناس عليه، ولا يلزم أن يكون هو الأفضل.
والقصد: أن مسألة عثمان وعلي ليس فيها نص وليس فيها إجماع، وقد أنكر الإمام أحمد على من بدَّع المخالف فيها، أي أنها مسألة لا يبدَّع المخالف فيها على الصحيح من مذهب أحمد، وإن كان المشهور عند أهل السنة أن عثمان أفضل.
ونقول هذا الكلام لأن هذه المسألة لا ينبغي أن يغالى فيها مع الشيعة: أن عثمان أفضل من علي، كان هذا من مستقرات مذهبنا أنا نقدم عثمان على علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، لكن من التكلُّف أن يقال: إنه من الإجماعات والمستقرات، إنما القضية المستقرة الإجماعية تقديم أبي بكر وعمر، هذه هي التي لا جدال فيها، أما مسألة عثمان ففيها مجال للاجتهاد، ولو أن سنياً ناظر بعض الشيعة وقال: إن علياً عندنا أفضل من عثمان، لم يُنكر عليه، لكن إذا تكلمنا في الكلام العام قيل: الذي درج عليه أكثر أهل السنة أن عثمان أفضل من علي، مع أن هذا ليس فيه نص، وإنما قدم أبو بكر وعمر على علي للنص ليس إلا، هذا هو السبب: أن هذه لا جدال فيها لوجود نصوص فيها، أما عثمان فلا توجد نصوص، فله فضائل ولـ علي بن أبي طالب فضائل.
أما قول ابن عمر: (كنا نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت)، فهذا ليس بلازم، هذا يحكيه ابن عمر أنه كان يقال هذا، لكن أن هذا كان مستقراً عند المسلمين أو ما إلى ذلك، فهذا بعيد.
فالمسألة لا يقصد بها تفضيل علي على عثمان بقدر ما يقصد أنها ليست من مسائل الأصول، وليست مما يقطع فيه الجدل مع الشيعة.
قال رحمه الله: [مع أن بعض أهل السنة قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان ثم سكتوا أو ربَّعوا بـ علي، وقدَّم قوم علياً، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي].
والأقوال الثلاثة كلها ممكنة، من قدَّم عثمان أو قدَّم علياً أو من توقف، هذه كلها أقوال ممكنة من جهة الاجتهاد، ولا يبدع المخالف فيها.