قال رحمه الله: (ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل).
المصنف هنا قال: (الدين والإيمان)، والاختلاف عند أهل القبلة إنما هو في اسم الإيمان، وأما اسم الدين فقد أجمع المسلمون على أن الدين قول وعمل، فهذا مما لا يختلفون فيه، وليس من موارد الخلاف، وأجمعت الطوائف جميعها على أن الإيمان من الدين، ولكن منهم من يذهب إلى الترادف بين الدين والإيمان، ومنهم من يفرق من وجه.
وكأن من محصِّل مذهب أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان -أو هذين الاسمين- على مسمىً واحد، بخلاف المرجئة، فإنهم باتفاقهم لا يجعلون العمل داخلاً في مسمَّى الإيمان وإن كانوا يجعلونه من الدين.
وحتى الطرف الآخر في المسألة وهم الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن الإيمان قول وعمل ولكنه لا يزيد ولا ينقص، في ظاهر مذهبهم -وإن كانت هذه المسألة لا يعتنون بتحريرها- أنهم يفرقون بين الدين والإيمان.
لكن هناك فرق بين المعتزلة والخوارج، فالمعتزلة حكي في مذهبهم الخلاف، والخوارج منهم من يحكي الإجماع عندهم ومنهم من يحكي الخلاف.
فالمسألة -كما أسلفت- ليست محررة في كتبهم أو فيما نقل عنهم، لكن النوافل منهم من يجعلها من الإيمان، ومنهم من يقول: إنها من الدين وليست من الإيمان، فيتحصَّل أن الضبط لاسم الدين واسم الإيمان على هذا المعنى هو من المعاني المستقرة في كلام أهل السنة والجماعة.
فقول المصنف: (أن الدين والإيمان) أما الدين فلا خلاف فيه بين المسلمين أنه قول وعمل، وإنما الخلاف في اسم الإيمان.
فإن قيل: فإذا كان لا خلاف فيه فلم ذكره المصنف؟
فالجواب: أن هذا نوع من التصحيح، وهو نوع من الإلزام، بمعنى: أنه إذا كان مستقراً عند المسلمين أن الدين قول وعمل، فينبغي أن يستقر عند المسلمين أن الإيمان قول وعمل، وإن كان النظَّار من المرجئة أو غيرهم يفرِّقون بين الدين والإيمان، فإن المستقر عند عامة المسلمين وحتى علماء المرجئة القاصدين للسنة والجماعة أن الأقرب إلى الأصول الشرعية والفطرية أن الدين والإيمان على معنىً واحد، فيكون هذا أدعى للتصحيح عند العامة، وهذا ليس من باب الخطاب بالعاميات؛ لأن المخالفين إنما خالفوا بأصولٍ مبتدعة، والأصول التي عند العامة تلقوها عن منهج الرسالة العام، فيكون الاستعمال لها حسناً من هذا الوجه.
وقوله: (قول وعمل)، أجمع السلف رحمهم الله وأئمة السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، وإن كانت عباراتهم قد اختلفت ألفاظها، فالمشهور عن جمهورهم أنهم يقولون: الإيمان قول وعمل ..
هذا هو التعبير الذي نطق به الجمهور من السلف، ومن السلف من قال: الإيمان قول وعمل واعتقاد.
ومنهم من يقول: إنه قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح.
ومنهم من يقول: إنه قول وعمل ونية واتباع للسنة.
كـ سهل بن عبد الله، وهو من النسَّاك، وإن كان عنده قدر من العلم، لكنه اشتهر بالعبادة والنسك.
وقال البخاري في صحيحه -في إحدى روايات صحيح البخاري -: الإيمان قول وفعل.
وإن كانت هناك رواية أخرى لصحيح البخاري فيها: أن الإيمان قول وعمل.
لكن الموجود في صحيح البخاري الآن: أن الإيمان قول وفعل.
وإن كان من الشرَّاح من تكلم على تعبير البخاري بالفعل.
والأصل في هذا ألا يبالغ في الفرق بين العبارات، وهذا منهج سبق أن نبهت إليه: أن التفقه في المعنى الاصطلاحي يُستعمل في مسائل التكليف، سواء كان هذا التفقه من النظر في كلام الله سبحانه وتعالى، أو كلام رسوله، أو حتى في كلام أهل العلم.
أما تعبير السلف في مسائل الأصول، فكلما قُصِدَ إلى أن الخلاف لفظي بينهم فإن هذا يكون أجود، فينبغي أن يجعل الخلاف في التعبير عن الأصول من الخلاف اللفظي، وعلى الأقل: ينبغي أن يجعل ذلك من خلاف التنوع، أما كثرة التفريق بأن هذا يشير بقوله كذا وكذا إلى كذا وكذا من المعاني، وقد يكون اللفظ محتملاً لذلك، لكن معرفة أن هذا المتكلم قصد ذلك فيه تعذر.
وفي الغالب أنه صدرت هذه الإجابات من الأئمة ليس عن كثير من هذه الإشارات، إنما كانوا يقصدون بها معنىً واضحاً: أن الإيمان قول وعمل، على ما فصَّله شيخ الإسلام هنا.
إذاً: تعبير السلف هنا مختلف، وإذا قيل: هل هذا التعبير من الخلاف اللفظي، أم من خلاف التنوع، أم من خلاف التضاد؟ فقطعاً أنه ليس من خلاف التضاد، ولكن البعض يقول: إنه خلاف تنوع، وهذا أيضاً غلط؛ لأنه إذا اختلف هذا التعبير مع التعبير الآخر فلا بد أن يتضمن أحد التعبيرين معنى ليس في التعبير الآخر، فعندها يكون الاختلاف من باب اختلاف التنوع، فيكون في أحد التعبيرين من المعنى ما ليس في الآخر، وإن كان لا ينافيه، فإذا وجد هذا قيل: إن الخلاف هنا خلاف تنوع.
أما اختلاف ألفاظ السلف في التعبير عن الإيمان فهو من باب الخلاف اللفظي، والخلاف اللفظي لا يفهم منه أنه لا ثمرة له كما هو مشهور عن مسائل الخلاف اللفظي عند كثير من أهل الأصول، إنما هنا وإن كان الخلاف لفظياً إلا أن ثمرته هي إظهار أبين العبارات وأصدقها في التعبير عن الحقائق العلمية؛ ولذلك كان التعبير الذي يقول: إن الإيمان قول وعمل -وهو الذي عبَّر به الجمهور من السلف- هو أصدق هذه التعبيرات، أصدقها من جهة الألفاظ؛ لأنه أحكم لفظاً، ووجه كونه أحكم من جهة اللفظ: أن قولهم: الإيمان قول وعمل تضمن المقامات الأربعة: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، أما قول اللسان فمعروف، وأما قول القلب فهو تصديقه بما هو من التصديقات الشرعية، وأما عمل القلب فهو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له؛ كالمحبة والخوف والرجاء ونحو ذلك، وأما عمل الجوارح فهو بيِّن.
فهي أربعة مقامات: قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
وفي هذا بيان لفضل هذه الجمل: أن الإيمان قول وعمل.
وبالنظر البسيط إلى هذا التعريف: أن الإيمان قول وعمل، قد يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن يقول: أين الاعتقاد؟ فمن خلال ما سبق يتبين أن الاعتقاد هو قول القلب.
وهناك وجه آخر، وهو وإن لم يكن صريحاً لكنه أجود من جهة الإفادة، وهو: الإشارة إلى قدر من التلازم والتركب، ومعنى هذا الكلام: أن الإيمان في سائر موارده متركب من القول والعمل، سواء كان هذا التركب بطريق التضمن أو كان هذا التركب بطريق اللزوم؛ أما المطابقة فلا تكون إلا في شيء واحد، وإذا استعملت التركب فلا بد أن يكون عندك شيء وآخر، فهذا التركب يكون بطريق التضمن تارة ويكون بطريق اللزوم تارة أخرى.
ومن فَقِهَ هذا المعنى من النظر العقلي الشرعي، بانَ له أن سائر أقوال المرجئة ليست خاطئة فحسب؛ بل هي خاطئة من جهة العقل فضلاً عن الشرع، ووجه ذلك: أن سائر المرجئة -بل سائر أهل القبلة- يقولون: إن اعتقاد القلب وتصديق القلب هو الإيمان، وهو عند أهل السنة من الإيمان، والمهم أن اعتقاد القلب -الذي هو قول القلب- هو من الإيمان بلا جدل بين المسلمين.
فهنا يقال: إن كل ما هو من الإيمان عند السلف فهو مركب من هذين: قول وعمل، وهذا التركب إما أن يكون تضمناً وإما أن يكون لزوماً.
والمرجئة لما جاءوا إلى العبادات الظاهرة كالصلاة قالوا: إنها ليست من الإيمان، مع أنهم اتفقوا على أن التصديق من الإيمان، ومنهم من يخصه به؛ فيرد عليهم أن الصلاة وسائر الأعمال الظاهرة حقيقتها أنها مركبة من قول القلب الذي هو تصديقه، ومن العمل، وليس هناك صلاة ولا عمل ظاهر ينفك عن التصديق؛ فالصلاة حقيقتها أنها مركبة من العمل الظاهر -وهي الحركات التي شرعت كالركوع والسجود ورفع اليدين، سواء كانت ركناً أم كانت مستحبةً- ومركبة من الاعتقاد والتصديق.
والصلاة ليست ماهيتها تصديقاً محضاً لا عمل معه، ولو قال قائل: إن الصلاة هي تصديق محض لا عمل معه، لأنكر جميع النظَّار وجميع المسلمين ذلك.
ولو جاء شخص وقال: أنا أصلي بقلبي، أؤدي الصلاة بقلبي، وأقوم بهذه الأعمال بقلبي وأصدق بها؛ لقيل له: هذه ليست صلاة شرعية، فكذلك من زعم أن الصلاة -والصلاة مثال وسائر الأعمال الشرعية على حكم الصلاة في القاعدة- هي عمل وليست تصديقاً، فيقال للمرجئ إذا أقر أن الصلاة مركبة من العمل والتصديق: ألست تجعل التصديق من الإيمان؟
إذاً: عرفنا ضرورة عقلية وشرعية أن الصلاة ماهية مركبة من التصديق والعمل، من قول القلب والعمل، ولك أن تقول: إنها مركبة من ماهية الإيمان كله عند أهل السنة، وماهية الإيمان أربعة مقامات:
المقام الأول: قول القلب، والصلاة فيها قول القلب، فمن صلَّى وهو غير مصدق بأن الصلاة من الإسلام فصلاته باطلة، ومن صلَّى الظهر -مثلاً- وهو غير مصدق أن صلاة الظهر شرعها الله ورسوله أربعاً، فصلاته غير صحيحة، وكم من التصديقات اللازمة في الصلاة! فهذا قول القلب.
المقام الثاني: عمل القلب، فمن صلَّى وهو لا يصلي محبةً لله وخوفاً ورجاءً، فصلاته مثل صلاة عبد الله بن أبي، صلَّى لكنه ما صلَّى محبة وخوفاً ورجاءً، فإذاً لزم بالضرورة أن الصلاة مضمنة بعمل القلب.
المقام الثالث: قول اللسان؛ فالصلاة متضمنة لقول اللسان، فإن المصلِّي يقول: الله أكبر، ويقرأ الفاتحة، ويقرأ الشهادتين في آخر الصلاة وما إلى ذلك.
المقام الرابع: عمل الجوارح، فالصلاة متضمنة لعمل الجوارح، فإنه يركع ويسجد وما إلى ذلك.
ولو أن مصلياً أسقط أحد هذه المقامات الأربعة فصلاته باطلة بإجماع المسلمين.
إذاً: الصلاة الشرعية -والكلام هو في الأعمال الشرعية لا في الأعمال العادية- مركبة من ماهية الإيمان، فيمتنع هنا أن تقول المرجئة: العمل ليس من الإيمان، والتصديق من الإيمان، فقولهم هذا مبني على فرض أن الأعمال توجد منفكة عن التصديقات، وليس هناك عمل شرعي واحد ينفك عن التصديق، فإنه إذا انفك عن التصديق أصبح عملاً غير شرعي، ولو أن شخصاً دخل المسجد هروباً من لص، أو ممن يريد قتله، أو من شيء من هذا القبيل، فأراد أن يظهر لمن يركض خلفه أنه منشغل بالصلاة، وأنه ليس هو الشخص الذي هرب، فبدأ يتحرك، فإن هذا لا يحتسب له أنه مصلٍّ، ومن قام ليري شخصاً كيفية الركوع الصحيحة، فهذا لا يقال: