قال المصنف رحمه الله: [فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عليم بالخلق، وهم عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق].
الفلاسفة يقولون: إن الله لا يعلم الجزئيات، فهؤلاء كفار، وهم لم يكونوا يتكلمون عن الرب الخالق للسماوات والأرض رب العالمين، الذي فطر الله سبحانه وتعالى العباد على الإيمان به، ونزلت الكتب السماوية معرفة به؛ بل كان لهم طرق أخرى في تحقيق الآلهة وما إلى ذلك، فهم يقولون: لا يعلم الجزئيات، وإنما يعلم الكليات، فقولهم هذا بين الهجر، وهو من الكفر، كما قال أبو حامد الغزالي، فضلاً عن أئمة السنة.
لكن أحياناً يوجد في كلام بعض أهل العلم من التفصيل في مسائل القدر ما ليس محموداً.
وقد ذكرنا -بناءً على المنهج الذي ذكرناه سابقاً- أن مسائل أصول الدين الغيبية، والعقائد، وأفعاله سبحانه وتعالى لا ينبغي كثرة إيراد الأسئلة عليها، وإن كان السؤال قد يكون وراداً على كثير من الأذهان، فإن وروده على كثير من الأذهان لا يعني أنه سؤال مشروع أو سؤال صحيح، أو سؤال يمكن العلم به والجواب عنه، فكل هذا ليس بلازم.
ابن القيم رحمه الله في مناظرته بين السني والقدري افترض مناظرة ليست حقيقية، فبدأ يورد أسئلة لتحقيق صورة المناظرة، فأحياناً يأتي ببعض الأسئلة التي يفرضها على لسان القدري، ثم يورد كلاماً هو جواب السني، وبعض التزامات ابن القيم في جواب السني ليست محكمة.
فمثلاً: قوله: (إرادة الله لأفعال العباد)، هل هو مريد لكل همسة ولمسة وحركة من أفعالهم، أم أنه مريد سبحانه وتعالى للفعل جملة، أم أنه مريد لجنس الفعل؟ ثم قال: (إن الماء إذا كان يجري فالنهر يجري بإرادة الله، لكن لا يلزم أن كل جرية بعينها وكل نقطة من هذا الماء بعينها تكون متعلقة بإرادة مختصة)، وقال: كالرجل إذا حمل العبل من الحب، فهو حامل لكل حبة وإن كان لم تعقل إرادته بكل حبة على حدة، وبدأ يأتي بالمسألة من هذه الأوجه، ويديرها من هنا وهناك.
والصواب: ترك هذا الكلام؛ لأن من فطرة البشر إذا قيل: هذا الشيء مرادٌ لهذا المعين، أن يفهموا ذلك بالفطرة؛ لأن كل أمرهم أصلاً هو الإرادة، فإذا قيل: إن هذا الكأس جاء هنا بإرادة فلان من الناس، لم يحتج ذلك إلى التفصيل: كيف جاء؟ وهل كل أجزائه من الكأس؟ وهل الماء هو الكأس؟ وهل الكأس دون الماء؟ وهل جاء الماء قبل الكأس؟ وكأن هذا مشكلة القدرية مع أهل السنة.
وأنا لا أنتقد الإمام ابن القيم، فهو إمام معروف شأنه وعلمه، لكن المقصود من ذلك: أن كلاً يؤخذ من قوله ويرد.
وطالب العلم الفقيه الفاضل يعظم أهل العلم، لكنه يتجنب بعض هذه الطرق، وأنا أشير إلى هذا لأن الناشئين المقبلين على طلب العلم، لو كان عندهم منهج محكم من جهة العلم والتربية في طلب العلم، لكان لديهم مناعة -إن صح التعبير- عن مثل هذه الأشياء، ولما كان التنبيه إلى ذلك مقصوداً، لكن لأن كثيراً من الشباب يهتمون بهذا الزغل من العلم، وبهذه اللفتات من العلم، لأنها تحتاج إلى دقة الذهن، وفيها نوع من التميز، أما القول بأن الله خالق أفعال العباد فهو أمر معلوم منشور، حتى العوام يعرفونه؛ فطالب العلم حينما يرجع إلى معنىً دقيق، تشعر نفسه بنوع من امتيازه في فقه هذه المسألة.
وهناك نفوس كثيرة علمية فاضلة، لكنها أصبحت تتذوق هذا الأمر وتعشقه، فإذا وجدوا مثل ذلك لـ ابن القيم على جلالته، بدءوا يتتبعون مثل هذا النفس، وتتبع هذا النفس في هذا النوع من المسائل ليس محموداً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة].
هذا حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى الحديث أن القلم هو أول المخلوقات، ومن البين عند جمهور أهل السنة والحديث أن العرش سابق للقلم.
قال المصنف رحمه الله: [فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]].
والأول هو جزء من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس.
[وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]، وهذا التقدير لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات: فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا، ومنكروه اليوم قليل].
وهذه الكتابة ثابتة في الصحيح عن ابن مسعود وحذيفة بن أسيد، وإن كان بينها في بعض التراتيب نوع من الاختلاف والتنوع.