قول المصنف: (وهو الإيمان بالله
إلخ) مما يبين أن معتقد أهل السنة والجماعة لا يخرج عن الأصول التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا ينبه إلى مسألة، وهي: أن ما أحدثته الطوائف من أقوال بدعية في مسائل أصول الدين لا يوجب الزيادة على ما بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل يبقى معتقد أهل السنة والجماعة هو المعتقد الذي كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه من بعده.
ولهذا كانت الجمل المستعملة في كلام أئمة السلف التي لم ترد بألفاظها في كلام الله ورسوله أو في كلام الصحابة هي -في الغالب-: إما جملٌ سياقها يقع على النفي، أو جملٌ يقصد بها درء شبهة ودفع باطل قد طرأ على الحق.
مثلاً: شاع في كلام أئمة السنة والجماعة إذا ذكروا مسألة القرآن القول بأن القرآن غير مخلوق؛ مع أن هذه الجملة من جهة حرفها لا وجود لها في الكتاب والسنة أو في كلام الصحابة رضي الله عنهم، وإنما الذي في القرآن أنه كلام الله؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6].
وهذا الأمر -وله أمثلة كثيرة في كلام السلف- يبين لنا أنه حين يقرر المعتقد الواجب على سائر المسلمين أن يتبعوه، وهو معتقد أهل السنة والجماعة والمعتقد الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة كلها، وأوجب على الأمة أن تتبعه، فإن هذا المعتقد يجب أن يذكر بطريقة التقرير ابتداءً؛ فإنها الطريقة المعتبرة في القرآن والسنة.
أما ذكر هذا المعتقد بطريقة الردود وجمل النفي من غير ذكر لجمل الإثبات، فإن هذا ليس من منهج أئمة السلف، فضلاً عن كونه غير معرف بالحق، فإنك لو خاطبت من خاطبت من المسلمين من خاصتهم أو عامتهم بجمل من النفي، فإنهم يعلمون من هذه الجمل أن هذا المنفي ليس حقاً، لكن تعيين الحق من جهة كونه كلاماً مثبتاً مفصلاً قد لا يصلون إليه.
قد يقول قائل: إن النفي يستلزم إثبات الضد، فإذا عرف المسلم (أن القرآن غير مخلوق) علم أن السلف يرون أن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً، وأن هذا رد لقول من قال: إنه مخلوق من الجهمية والمعتزلة ونحوها.
فأقول: إن متكلمة الصفاتية يبطلون بدعة الجهمية من جهة عمومها، فينفون أن القرآن مخلوق، ومع هذا فإنهم -أعني عبد الله بن سعيد بن كلاب من بعده من متكلمة الصفاتية- لا يثبتون معتقد أهل السنة والجماعة من كون القرآن هو كلام الله بحروفه، وأن كلام الله سبحانه وتعالى يقوم بذاته ومشيئته، وأنه بحرف وصوت مسموع
إلخ.
فالمقصود من هذا: أن تقرير المعتقد في سائر المسائل لا ينبغي أن يعتبر ابتداءً بمسألة النفي أو الرد، وإنما يعتبر بجمل التقرير، وهي الجمل الخبرية أو الجمل الأمرية التي سياقها خبري، ولكنها وقعت أمراً من الشارع، أي: ألفاظها ألفاظ خبرية، ولكنها جاءت في سياق الأمر أو التشريع.
والمصنف رحمه الله هنا أتى على هذا القصد الفاضل بقوله: (وهو الإيمان بالله).
وهذا أيضاً تأكيد لما سلف من أن معتقد أهل السنة والجماعة هو الإسلام الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وبموجب هذا فإن سائر الطوائف التي يقال عنها أنها مخالفة للسلف هي قبل ذلك مخالفة للإسلام الذي بعث به النبي عليه الصلاة والسلام.