الشرط الثاني: الاتباع، فمن كان من أولي الفقه ولكنه ليس من أهل الاتباع فإنه يختلط، وأحياناً تنغلق عليه النصوص، فلربما ألزم نفسه بفقهٍ انتحله لنفسه؛ لأنه يرى أن هذا هو الاقتداء بقول الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن خالف من خالف.
وهذا المزلق من أخص مزالق الانحراف.
فإنه -لا شك- أن الاعتبار بكلام الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن يمتنع شرعاً أن يكون ما يجب اعتباره من كلام الله ورسوله مخالفاً لهدي الصحابة وهدي السلف رضي الله عنهم.
ولهذا نجد أن حماد بن أبي سليمان لما قصر في مسألة الاتباع، وتأمل بنفسه مسألة الإيمان، وجد أن الله في القرآن يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] ففرق بين الإيمان وبين العمل، فظن أن هذا يعني أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان.
قد يقول قائل: إن هذا ليس بحجة له؛ لأن هذا من باب عطف الخاص على العام.
أقول: هذا جواب معروف ذكره جماعة من علماء السنة، لكنه إن لم يكن ضعيفاً فإنه ليس قاطعاً في الحجة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية نفسه لا يستحسن هذا الجواب عند التحقيق، ويرى أن التحقيق في غيره، وسيأتي -إن شاء الله- الجواب المحقق عن هذا في مورده.
وإذا نظرت إلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام وجدت مواضع لا يفهمها إلا أهل التحقيق من أولي الفقه والاتباع؛ ففي حديث جبريل يقول صلى الله عليه وسلم: (هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).
لكنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد عبد القيس -كما في حديث ابن عباس في الصحيحين وجاء من رواية أبي سعيد عند الإمام مسلم - قال: (آمركم بالإيمان بالله وحده، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم).
فذكر لهم ما فسر به الإسلام في حديث جبريل، وهذا يدل أن جوابه صلى الله عليه وسلم يقع فيه هذا التنوع.
أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عثمان رضي الله عنه في الصحيح-: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).
أيضاً جاء في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه، أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه برد أبيض، فأتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه، فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله -وفي لفظ: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله- إلا حرم الله عليه النار، قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر) وفي رواية: (وإن شرب الخمر).
وفي حديث محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك في الصحيحين لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم دار عتبان وقد ضعف بصره واتخذ مكاناً يصلي فيه، فطلب من الرسول أن يصلي فيه تبركاً بأثره الحسي في حياته عليه الصلاة والسلام، فجاء النبي يصلي فيه ومعه معشر من الصحابة، والرسول في صلاته في بيت عتبان، قال: فوقعوا في مالك بن الدخشم، وهو رجل طعن فيه بعض الصحابة بالنفاق، ثم برأه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ودوا أنه دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته لم يقل: إني أعرف الرجل، ولم يشر إلى حقيقة تختص بـ مالك بن الدخشم، وإنما قال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطاله).
فذكر عليه الصلاة والسلام في سنته وعداً.
ولما ذكر الوعيد قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (لا يدخل الجنة قتات) وفي الصحيح: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة) وفي الحديث في البخاري: (عبدي بادرني بنفسه -لما قتل نفسه- حرمت عليه الجنة) بل في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) وإن كان لفظ التأبيد ليس محفوظاً على الصحيح.
في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين لما قال: (يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم؟!) لا تقل: مؤمن: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
ومع ذلك يقول الله تعالى في من قتل عمداً: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178].
ويقول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ويدخل فيها الفاسق بإجماع المسلمين.
وقد ذكر الله المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فقال تعالى عنهم في سورة التوبة: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:56] وفي سورة الأحزاب قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] فأدخلهم في سورة الأحزاب بالإضافة وأخرجهم في سورة التوبة، لم يدخلهم في سورة الأحزاب فحسب؛ بل قال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ} [الأحزاب:18].
والمقصود: أن هذه السياقات الواردة في الوعد والوعيد والأسماء والأحكام وأسماء الإيمان والدين لابد من فقهها.
ومن التمس وجهاً واحداً، فإنه يقع إما في الإفراط إن أخذ بعض النصوص التي تقوده إلى الإفراط، كمن لم يعرف من كلام الله سبحانه وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم في الوعيد إلا مثل قول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء:14] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] وما إلى ذلك من أحاديث الوعيد التي سبق الإشارة إلى شيء منها ..
فإنه يقع في الإفراط ولا بد؛ لأنه يرى أن هذه هي النصوص.
وكذلك: من لم يعرف إلا نصوص الوجه الآخر، فإنه يقع في التفريط في هذا الباب؛ وهذا الباب قد انضبط الجمع فيه، ودُرئ الإفراط والتفريط في نتائجه المقولة في الآخرة من جهة الخلود في النار أو عدمه.
ولكن الذي يقع به وهم عند بعض المتأخرين وبعض المعاصرين هو في تقدير مسائل الكفر والتكفير وقيام الحجة وعدم قيام الحجة، فإنه يقع نزاع في مسائل لم تنطق بها النصوص أصلاً، كمسألة فهم الحجة هل يشترط؟ على قولين: القول الأول: أنه يشترط، والقول الثاني: أنه لا يشترط، وهذا كله من التكلف اللفظي.
والمعاني الشرعية -ولا سيما هذا المعاني الكبار- إنما تعتبر بحقائقها التي تجمع تحتها سائر النصوص التي قد تبدو لمن ليس له فقه أن ظاهرها التعارض.