الإمام -رحمه الله تعالى- جعل هذا الحديث تحت هذه الترجمة فيما يكره من الكلام، وحمله على هذا المحمل، وإن كان العلماء اختلفوا في المراد به، هل هو مدح وإلا ذم؟
"فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من البيان لسحراً)) " يعني بعض البيان سحر، لا سيما إذا استخدم في نصر الباطل، والبيان مشابه للسحر، باعتبار أنه يؤثر في الناس تأثير السحر، كم من خطيب أقنع الناس ببيانه، وغير قناعات الناس ببلاغته وفصاحته، كما يخيل الساحر على الرائي وعلى السامع ما يخيله، فتأثير الكلام نظير تأثير السحر، فهذا الكلام ليس على .. ، لا يذم مطلقاً، ولا يمدح مطلقاً، والتفصيل مثلما سمعتم، إن استعمل هذا البيان في نصر الحق وقمع الباطل فإنه حينئذٍ يكون ممدوحاً، وإن استعمل بالعكس فبالضد يكون مذموماً.
((إن من البيان)) هذه تبعيضية، ما يدل على أن منه ما هو ممدوح، يعني تشبيهه بالسحر يعني هل يقتضي التشبيه من كل وجه؟ لا، التشبيه لا يقتضي مطابقة المشبه مع المشبه به من كل وجه، قد يكون التشبيه من وجه دون وجه، كما شبه الوحي بصلصلة الجرس، الجرس مذموم، والوحي ممدوح؛ لأن صلصلة الجرس لها جهتان: جهة ممدوحة، وجهة مذمومة فهو يشبه به من الجهة الممدوحة لا المذمومة.
وهنا البيان له جهة مذمومة يشبه فيها بالسحر، وله جهة ممدوحة يمدح بها ويثنى على من نصر الحق ببيانه، ولذا قال: ((إن من البيان)) وفي الرواية الأخرى: ((إن بعض البيان لسحر)).
قال: "وحدثني مالك أنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم".
لا شك أن فضول الكلام من أخطر الأمور على القلب، إضافة إلى فضول الطعام، فضول السمع، فضول البصر، فضول النوم، فضول الخلطة بالناس، كل هذه مما يحجب القلب ويغطيه، كما ذكر ذلك ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين، فعلى الإنسان أن يقلل من الخلطة بقدر الإمكان، ويخلو بما ينفعه، وما يقربه إلى الله -جل وعلا-.