فصل: وأما الأثر الذي ذكره مالك عن يحيى بن سعيد جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير، والمال وافر، فقل العدد، وذهب المال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((دعواها ذميمة)).
وقد ذكر هذا الحديث غير مالك من رواية أنس أن رجلاً جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أنا نزلنا داراً فكثر فيها عددنا، وكثرت فيها أموالنا، ثم تحولنا إلى أخرى، فقلت فيها أموالنا، وقل فيها عددنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكره.
فليس هذا من الطيرة المنهي عنها، وإنما أمرهم -صلى الله عليه وسلم- بالتحول عنها عند ما وقع في قلوبهم منها لمصلحتين ومنفعتين: إحداهما مفارقتهم لمكان هم له مستثقلون، ومنه مستوحشون لما لحقهم فيه ونالهم؛ ليتعجلوا الراحة مما دخلهم من الجزع في ذلك المكان والحزن والهلع؛ لأن الله -عز وجل- قد جعل في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم الشر فيه، وإن كان لا سبب له في ذلك وحب ما جرى لهم على يديه الخير، وإن لم يردهم به فأمرهم بالتحول مما كرهوه؛ لأن الله -عز وجل- بعثه رحمة ولم يبعثه عذاباً، وأرسله ميسراً ولم يرسله معسراً، فكيف يأمرهم بالمقام في مكان قد أحزنهم المقام به، واستوحشوا عنده لكثرة من فقدوه فيه لغير منفعته ولا طاعة ولا مزيد تقوى وهدى؟ فلا سيما وطول مقامهم فيها بعد ما وصل إلى قلوبهم منها ما وصل قد يبعثهم ويدعوهم إلى التشاؤم والتطير فيوقعهم ذلك في أمرين عظيمين:
أحدهما مقارنة الشرك، والثاني: حلول مكروه أحزنهم بسبب الطيرة التي إنما تلحق المتطير، فحماهم -صلى الله عليه وسلم- بكمال رأفته ورحمته من هذين المكروهين بمفارقة تلك الدار والاستبدال بها من غير ضرر يلحقهم بذلك في دنيا ولا نقص في دين، وهو -صلى الله عليه وسلم- حين فهم عنهم في سؤالهم ما أرادوه من التعرف عن حال رحلتهم عنها هل ذلك لهم ضار مؤد إلى الطيرة، قال: ((دعوها ذميمة)) وهذا بمنزلة الخارج من أرض بها الطاعون غير فار منه، ولو منع الناس الرحلة من الدار ...
أحسن الله إليك.
منَع وإلا مُنع؟