وتاريخ التعليم بالمنظومات متقدم، ولا بد من هدم الفكرة القائلة بأن المنظومات نشأت في عصور الانحطاط والركود، وأنها من تراث القرن العاشر الهجري وما بعده، ومع تحفظي على اصطلاح الانحطاط والركود فهذا كله غير واقعي، ولا شك أن المنظومات قد اتخذت منهجاً تعليمياً أصيلاً قبل ذلك بزمن بعيد.
ومع أن أقدم نظم (مطبوع) يعود إلى القرن السادس الهجري إلا أننا نؤكد أن هذا المنهج كان أصيلاً قبل ذلك بزمن، ذلك أن المتأمل في منظومات القرن السادس التي اشتهرت بين الناس يجد أنها لا تشير إفصاحاً ولا إلماحاً إلى أنها لون مبتدع في التعليم، بل يلتمس القارئ أنها صلة لجهود سابقة من الفن نفسه وعلى السبيل ذاته.
ففي منظومة (حرز الأماني ووجه التهاني) التي كتبها الإمام الشاطبي في القرن السادس الهجري، إذ توفي عام 590 هجرية، تجد نفسك أمام علم مكتمل، ونظم مستوفٍ لشرائط المنهج التعليمي المتين، مما يدل على أنها حلقة في سلسلة متقدمة، أضف إلى ذلك أن النظم في القراءات لا يتصور أن يبدأ إلا بعد نظم العلوم الأكثر تداولاً والأسهل منالاً، كالعقائد والاصطلاح والتجويد والفقه.
كذلك فإن الوصول إلى الألفية لا يتم مرة واحدة، بل لا بد أن يكون هذا العطاء قد سبقته منظومات أصغر وأخصر في الفن ذاته، ناهيك عن غيره من الفنون القريبة.
أذكر على سبيل المثال ما أورده حاجي خليفة في كشف الظنون ص 1344، حيث ذكر منظومة في قراءة نافع لأبي الحسن علي بن عبد الغني الفهري القيرواني، المتوفي سنة 488 هـ.
كذلك فقد كتب النسفي عمر بن محمد بن أحمد نظماً طويلاً في فقه الحنفية ومخالفيهم، ذكر أنه استكمله عام 504 هجرية، وقد أورد حاجي خليفة في كشف الظنون تعريفاً جيداً بالكتاب وما قام عليه من شروح وحواشي ومختصرات.
وقد بلغت أبيات هذا النظم 2669 بيتاً، كما أشار الناظم في آخرها:
وجملة الأبيات يا صدر الفئة ألفان والستون والستمائة
وتسعة، والله يجزي ناظمه جنات عدن وقصوراً ناعمة
وهذا كما ترى كثير، وقد صنفه النسفي مطلع القرن السادس، وهو يلتزم بحر الرجز الذي اعتمده الناظمون فيما بعد، والمفترض أن تكون هذه الألفية الكبيرة نتيجة جهود كبيرة سابقة، ولا ريب أن عدداً كبيراً من القصائد التعليمية قد كتب قبل ذلك بزمن.
وتلاحظ في أرجوزة النسفي التزام الشيخ رحمه الله بطريقة النظم السائدة من جعل كل بيت بقافية مستقلة، متطابقة في الصدر والعجز.
وبالرغم مما قام على هذه المنظومة من جهود هامة غير أنها لم تفرد بالطبع مستقلة.
كذلك فأنت تجد أن نظم (بغية الباحث عن جمل الموارث) للشيخ محمد بن علي الرحبي المتوفى عام 577 هجرية، وقد سطر الرحبي هذه المنظومة في وقت مبكر، ولا تزال هي المنهج الرئيس المعتمد في تعليم مادة الفرائض في أكثر المدارس الشرعية، وإنه لا يتصور أن ينشأ هذا النظم البديع من فراغ، ويستمر بعدئذ نحو ثمانية قرون منهجاً أصيلاً من غير أن يكون قبله تجارب سابقة يفيد منها، ويقتفي إثرها، ومن غير أن يشير هو إلى أنه ينهج في تعليم الفرائض نهجاً جديداً لم يكن معروفاً من قبل.
وليس ثمة مبرر من إطالة الكلام في تقدم المنظومات من جهة التاريخ، فقد أورد حاجي خليفة في كشف الظنون عدداً من المنظومات تعود إلى مطلع القرن الرابع، وربما نظمت في القرن الثالث، إذ مات مؤلفوها مطلع الرابع.
فمنها قصيدة في غريب اللغة لنفطويه النحوي المشهور المتوفى 323 هـ، شرحها ابن خالويه المتوفى 370 هـ.
ومنها قصيدة نونية في التجويد لأبي المزاحم موسى بن عبد الله الخاقاني المتوفى سنة 325 هـ. وقد أسماها (عمدة المفيد) (كذلك قال حاجي خليفة في كشف الظنون ص 1348، ولكنه نسب ذلك في ص 1171 إلى علم الدين السخاوي، وأغلب الظن أن هذا الاسم (عمدة المفيد) لكتاب السخاوي في الشرح على النونية المذكورة) ، وشرحها السخاوي المتوفى عام 643 هـ.
ومنها القصيدة الرائية في علم الإنشاء لأبي مزاحم موسى بن عبد الله الخاقاني المتوفى سنة 325 هـ. وذكر في الكشف نحو عشر منظومات تعليمية تعود إلى القرن الرابع والخامس، وسنأتي على إيرادها جميعاً في ثبت المنظومات العام في آخر الموسوعة.
ولكن يجب القول أن أقدم منظومة أثبتناها في الموسوعة هي من أعمال القرن السادس الهجري، على الرغم مما أكدناه لك أن ثمة منظومات أقدم من ذلك بزمن لم نوفق لخدمتها هنا، ولعلنا نوفق لذلك في أعمال قادمة.