التعليم بالمنظومات منهج أصيل لدى العلماء المسلمين، وهو لكثرة انتشاره واشتهاره، لا يحتاج إلى دليل يظهر مدى قناعة المسلمين به، واعتمادهم عليه.
فقد كتبت المنظومات في سائر العلوم الشرعية والكونية منذ قرون طويلة، وقُرِّرت في حلقات التعليم، وتناوب العلماء في خدمتها شرحاً وتدريساً وتحشية وتذييلاً، حتى أصبحت عنواناً على المعرفة، وأصبحت جزءاً رئيساً من ذاكرة طالب العلم، ومدخلاً واضحاً من مداخل المعرفة الأصيلة.
وقل أن تجد عالماً من علماء العربية اليوم لم يحفظ ألفية ابن مالك مثلاً، ويتخرَّج بشروحها وحواشيها، وجهود العلماء عليها.
وكذلك فإن علماء القراءة اليوم لا يزالون يشرطون على طالب هذا الفن أن يستظهر واحداً من النظمين: حرز الأماني مع الدرة أو طيبة النشر، ولا ينال الطريقين إلا باستظهارهما معاً.
والأمر ذاته في تحصيل علوم الفرائض والحديث والأصول وغيرهما من العلوم النظرية.
خصائص التعليم بالمنظومات:
وتكشف طريقة التعليم بالمنظومات عن وعي عميق لدى العلماء المسلمين، ذلك أنهم أدركوا أن طاقة العقل لدى الإنسان تتوزع بين الحفظ والفهم، وأن إطار الحفظ يبدأ كبيراً مع سن الطفولة فيما يكون إطار الفهم والاستيعاب أقل وأضعف، ثم يبدأ إطار الحفظ بالتناقص لحساب الفهم والاستيعاب حتى يتساويا ثم تصبح القدرة على الفهم والاستيعاب أكبر من القدرة على الحفظ والتخزين في الذاكرة.
فلو افترضنا أن طاقة العقل مائة درجة، فإن الإنسان في سن العاشرة، تتوزع قدرته على أساس أن الذاكرة لها تسعون والاستيعاب له عشرة فإذا بلغ سن العشرين تناقصت القدرة على الحفظ إلى خمسين وتعاظمت القدرة على الفهم إلى خمسين، فإذا بلغ الثلاثين أصبحت القدرة على الفهم تسعين والقدرة على الحفظ عشرة.
ولست أزعم أن هذه القاعدة مطلقة بحيث لا تتخلف، بل لها استثناءات كثيرة ترتبط بتركيب الإنسان النفسي كما ترتبط بظروفه الاجتماعية، ولكن الفترة الذهبية للحفظ هي بلا ريب فترة الطفولة، ففي الطفولة يتعلم المرء على ذاكرة بيضاء، فتكون المعلومات أرسخ وأبقى، حتى إذا كثرت المعارف والمشاغل ضاقت ساحة الذاكرة عن استيعاب الجديد، فتزاحمت المعارف، وكثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً.
ومن هنا شاع بين أهل المعرفة: الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر، والحفظ في الكبر كالنقش في الكدر.
فبينما يرسخ النقش على الحجر، فإن النقش على الكدر، وهو الطين الجاف لا يلبث أن يتفتت لأول عامل من عوامل الدهر.
وعلى إدراك لذلك كله نهج العلماء المسلمون في التعليم، فقدموا للصغير أصول المعارف على هيئة منظومات ومتون، طلبوا من الفتى حفظها واستظهارها، ولم يشاؤوه على فهم مقاصدها واحتمالاتها، فشغلوه بما هو به جدير، وصرفوه عما هو ليس له بأهل، إذ لن يبلغ فهم هذه المنظومات إلا بتكليف وتعسف، بينما يمكنه حفظها بمتعة ويسر، ويتخذها له نغماً ولحناً.
ولست أعني أنه كان يُكَفّ عن فهم عباراتها، فيحفظها حفظ الأعجم، بل كانت تحل له عقد العبائر، دون الدخول في تفاصيل الدلالات.
وهكذا فإن الفتى يفتح عينيه على العلم في الثامنة عشرة مثلاً وعنده مخزون كبير من المعرفة، مطبوع في الذاكرة، كلما ناداه قال له لبيك، فيشرع بفهم المسائل، وإن أصولها مبسوطة على صفحة ذاكرته، كأنه يراها عياناً ويلمسها بناناً، فيكون ذلك أدعى للفهم وأوقر في العقل.
ثم يتصدر للتعليم والفتيا وعلمه معه حاضر، ولسانه له ذاكر، فيصبح كالغني عن حمل القراطيس، كما قال الإمام الشافعي:
علمي معي أينما يممت يتبعني صدري وعاء له لا بطن صندوقي
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق
وقال آخر:
ما العلم فيما قد حوى القمطر ما لعلم إلا ما حواه الصدر
وقد كانوا يعنون ذلك حينما قالوا: من حفظ المتون حاز الفنون، ومن قرأ الحواشي ما حوى شي.
ولست أدري لماذا تعرض الطريقة الحديثة في التعليم عن مناهج التعليم بالمنظومات، رغم أننا لن نحتاج إلى التدليل على موثوقية علم الأقدمين، وحضوره بين أيديهم في سائر الأحوال.
ولا شك أن الذي ألهم المسلمين هذا المنهج، هو تجربتهم الأصيلة في حفظ القرآن الكريم، فالمسلمون أمة اختصها الله بهذا التنزيل، وجاءت الأحاديث بالتوكيد على حفظه واستظهاره، وبدءاً من عصر السلف الأول فقد اعتبر حفظ القرآن الكريم شرطاً رئيساً لمن يخوض في التأويل أو التفسير، وبالحري إذن فهو شرط أساس لكل عالم يتصدر للتعليم.
وظهر للأقدمين بركة حفظ النصوص من خلال ذلك، فراحوا ينهجون النهج ذاته في العلوم الأخرى، من سبق الحفظ ثم تعقيبه بالفهم والشروح.
وإياك أن يأخذ بك الظن إلى تصور أنهم قصدوا محاكاة النظم القرآني، في أسلوبه المعجز، فهذا لا يدركه أحد، بل لم يزعمه أحد، وإنما أرادوا محاكاة الطريقة التعليمية الناجحة التي ألهمهم إياها أسلوبهم في تلقي العلوم المتصلة بالقرآن الكريم.