تعريف عام بعلم أصول الفقه
بقلم: الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
الحمد لله رب العالمين، حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على رسول الله، معلم الخير، ومرشد الناس إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة، القائل: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»
ورضي الله عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعن العلماء العاملين، والدعاة المخلصين، وبعد..
فإن الأمة الإسلامية تميزت عن بقية الأمم بميزات كثيرة في العلوم والثقافة، والحضارة والإبداع، وفي مجالات متنوعة، ومن هذه الميزات التي انفردت بها على بقية الأمم والشعوب في الجانب العلمي والتطبيقي والمنهجي إبداعها لبعض العلوم التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، ولم يلحقها فيها أحد حتى الآن، ومن ذلك علمان أساسيان، وهما:
-1- علم مصطلح الحديث أو علم أصول الحديث ومصطلحه الذي وضعه العلماء المسلمون، ليكون أدق منهج علمي في النقد والتراجم والرجال ونقل الأخبار والروايات.
-2- علم أصول الفقه في مجال التشريع والأحكام، والأنظمة والشرائع، وفي دائرة الاجتهاد والفتوى والقضاء والإدارة، والمحاماة والبحث، وتفسير النصوص وفهمها.
لذلك يشكل علم أصول الفقه المنارة الوضاءة بين العلوم الشرعية، ويعتبر مفخرة الأمة في حضارتها وعلومها.
وهو علم فريد في تاريخ الأمم والشرائع القديمة والحديثة، وهو مما انفرد به المسلمون بين الأُمَمِ.
قال ابن خلدون: (واعلمْ أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة) وعلم أصول الفقه عبارة عن القواعد والمبادئ التي سار عليها الفقهاء في استنباط الأحكام من المصادر الشرعية، وبيانها للناس، ويتكون من الضوابط التي يلتزم بها الفقيه أو المجتهد، بقصد أن يكون طريقه مستقيماً واضحاً، لا يعتريه وهن أو انحراف، ولا خبط أو اضطراب، ويوصل إلى الهدف المقصود.
وهذا العلم هو المصباح الذي ورثته الأجيال، وحمله العلماء لبيان الأحكام الشرعية لكل جديد في كل عصر، ومعالجة المبادئ والأحداث التي تطرأ، وغير ذلك وفق منهج محدد، يسير عليه العالم في الاستنباط والاجتهاد.
وعلم أصول الفقه من العلوم الأساسية في الدين لضبط الخلاف، وتمييز الغث من الثمين، وكشف مناهج الأئمة والعلماء في الاجتهاد والاستنباط والاستدلال، لذلك بيَّن ابن خلدون أهمية أصول الفقه، فقال: (اعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية، وأجلها قدرا، وأكثرها فائدة ... وهو في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام) (مقدمة ابن خلدون ص 455، وانظر التعريف بعلم أصول الفقه، وبيان أهميته، ونشأته، وتطوره، وأشهر علمائه، وأهم كتبه في كتاب «أصول الفقه الإسلامي» وكتاب «تعريف عام بالعلوم الشرعية» وكتاب «مرجع العلوم الإسلامية» وكلها للدكتور محمد الزحيلي)
وكان الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى أول من دون علم أصول الفقه وكتب فيه رسالته المشهورة (الرسالة) التي تعتبر أصل الأصول، ثم وضعها مقدمة لكتابه الفقهي العظيم (الأم) واتخذها منهاجا للاستنباط والاجتهاد وبيان الأحكام، قال الرازي: (اعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطو إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض) وقال ابن خلدون: (وكان أول من كتب فيه الشافعي)
وشمّر العلماء والفقهاء من مختلف المذاهب عن سواعدهم في التأليف والتصنيف في علم أصول الفقه، وتعددت طرق التأليف فيه، وظهرت المؤلفات العظيمة، والكتب القيمة في الأصول، واستمر هذا العمل المبارك طوال العصور الإسلامية، وصار علم أصول الفقه من أوائل العلوم الشرعية التي تدرس في جميع المدارس المعاهد الشرعية، وأصبح مقرراً أساسيا في جميع الجامعات الإسلامية وكليات الشريعة والدعوة، ولمست الجامعات الأخرى أهميته وفائدته وخواصه، فأصبح علم أصول الفقه أحد المقررات في جميع كليات الحقوق في العالم العربي والإسلامي.
وصنفت كتب كثيرة على طريقة المتأخرين، ومنهج التأليف المعاصر، الذي يتناسب مع الدراسة والتدريس في الجامعات الإسلامية، وكليات الشريعة والدعوة، وكليات الحقوق، وهي كتب قيمة ومفيدة.
كما نشرت في ربع القرن الأخير أهم كتب الأصول القديمة، وهي المراجع القيمة لهذا العلم، والمصادر الأصلية له، مما يبشر بخير عميم في دعوة هذه الأمة إلى تراثها، وحضارتها، وشريعتها، وعلومها لتكون بمشيئة الله تعالى خير خلف لخير سلف، وأصبحت مكتبة علم أصول الفقه عامرة والحمد لله، ولكنها تحتاج إلى التطبيق والممارسة للاستفادة الكاملة منها.
وكنت قد صنفت كتاباً في (أصول الفقه الإسلامي) لطلاب السنة الثانية من كلية الشريعة بجامعة دمشق، وطبع عدة مرات، وقام الشاب المؤمن النشيط الأستاذ محمد الحبش بنظمه بطريقة مفيدة، ونافعة، وميسرة، ثم رجع إلى المنظومة فشرحها ملتزماً بذلك خطة الكتاب الأصلي ومنهجه في الترتيب والتبويب والبيان، وها هو يقدمه للناس وطلاب العلم ليستفيدوا منه، وينتفعوا به، فجزاه الله خير الجزاء، ونفع الله به، وزاده علماً وأدباً وخلقاً.
نسأل الله العلي القدير أن يسدد خطانا لما فيه الخير والبركة، وأن يأخذ بيدنا إلى سواء السبيل، وأن يبارك لنا في العلم، وأن يمنحنا الفضل والقدرة على العمل والالتزام، وأن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، ويلهم المسلمين العمل بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عيه وسلم على الوجه الذي يرضاه، ويتفق مع التفسير الصحيح لكتاب الله تعالى، والفهم الدقيق للسنة، وأحكام الشرع، ومصادر التشريع.
والله ولي التوفيق، وهو نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين.
الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
وكيل كلية الشريعة للشؤون العلمية بجامعة دمشق
رئيس شعبة الفقه المقارن في قسم الدراسات العليا
بمجمع أبي النور الإسلامي