ولست أقصد فيما قدمت أن المنظومات كانت على مستوى واحد من حاجة الناس إليها، وعكوفهم عليها، فقد أصبحت المنظومات في المراحل المتأخرة ضرباً من المباراة بين المعلمين، وراح بعض المشتغلين بهذا اللون من التعليم ينظمون لغير ما مقصد علمي صحيح، فجاءت منظومات هزيلة، لم تأت بجديد، ولم تشتمل على مفيد، فيها تقليد بلا توفيق، وتلفيق بلا تجديد، فعلم الذين يحققون أن السعي قد أصبح في غير سبيل، وأن الميدان قد اجتازه من ليس من أهله، حتى ظهر في أهل العلم من يعمم هذا الحكم في كل نظم، ويجزم أن هذا الفن تكلف من غير تعرف، وتنطع يشغل عن العلم بالشكل دون المضمون.

ويمكن تلخيص عيوب المنظومات في وجوه:

الأول: كثرة الضرورات والجوازات، وقد نحا بعضهم نحواً لم يسمع في جوازات الشعر العربي، كإسكان المتحرك وتحريك الساكن، وترخيم الكلمات في غير مظان الترخيم، بل لجأ بعض النُّظَام إلى تغيير حركة الأواخر من خفض لرفع أو من رفع لفتح أو غير ذلك، مجاراة لوجه القافية!..

ولعمري فإن هذا تخبيص من غير تنصيص، إذ هو عكس مقاصد مؤسسي هذه المدرسة، فقد جعلت القافية لتذكير المتعلم بفرع المعرفة، من جهة أنها معلومة سلفاً، فإذا ما التوت كانت باباً للإشكال، وصار تحريرها يحتاج إلى اشتغال، والوقت في كلا الحالين هو الضريبة المؤداة في غير مقصد صحيح.

الثاني: التكرار في النظم، فقد كتبت في كل فن منظومته، وعلى من يعيد نظم المعارف أن يحقق جدوى سعيه، فإذا نظم فإن عليه أن يأتي بجديد في المعرفة، أو يرتقي بقديم، ينتخب من سلفه، فيزيده بياناً وإيضاحاً، بحيث يكون نسخة أوضح وأفصح، ولكن الذي حصل كان عكس ذلك، فقد ولع النُظَّام بسبك المنظومات إلى حد أنساهم غاياتها ومقاصدها، فصار النظم يتلو النظم وما فيه من ميزة إلا انحطاط مستواه، وتعثر مبناه ومعناه، والتعبير عن الجيد بالرديء.

وإن من الإنصاف أن نعتبر بما فعل الزمن، فقد حكم جزماً في هذه المنظومات، فألقاها في زوايا الإهمال والنسيان، وكافأها بما تستحق، وصارت لا تقرأ ولا تدرس إلا لتحقيق التاريخ فحسب، بعد أن جعل ناظموها آخر مقاصدهم من نظمها إضاءة المعرفة!..

الثالث: النظم في علوم لا يصلح فيها النظم، فقد اشتغل بعض المتأخرين في نظم علوم غير نظرية، فكان في ذلك تكلف ممل، وتعسف مخل، كالنظم في الاسطرلاب والهيئة والأعداد، فهذه العلوم لا يطلب فيها حشو الذاكرة بالمحفوظ بقد ما يطلب فيها حشو العين بالملحوظ، فأداة المعرفة فيها الرسوم والجداول والأرقام، أضف إلى أنها علوم متحولة متجددة، لا متأصلة مجردة.

فاشتغال بعض النُّظَّام بنظمها تكلف تنقضي فيه الأعمار، ولا يأتي إلا بأبخس الثمار، واشتغال الطلبة بحفظها ضياع للأوقات، ولا يجتنى منه إلا أهزل الثمرات.

الرابع: النظم في الفروع، وقد كثر ذلك لدى المتأخرين، وخيل إليهم أن المطلوب أن نجعل المعرفة كلها نظماً، من غير أن ندرك لها فهماً، وهذا تنطع لا داعي إليه، وتغييب للمقصد الرئيس من نظم هذه المنظومات، فقد بينا أنها تنظم أصلاً للصغير، يستحضرها في خياله يوم ينهض عقله بالتعبير والتفسير، فحيث طلبنا منه أن يحفظ ويحفظ، فقد زاحمنا في ذاكرته حق الفهم في أوانه، فأصبحنا كمن يزرع البذر في غير ميقاته وزمانه.

الخامس: كثرة الحشو والتطويل، هذا تكميل ولع به المتأخرون، ألجأهم إليه قصور العبارة، وركة الإشارة، فراحوا يزحمون البيت بالحشو المستهجن، الغريب عن المعنى والمبنى، من أجل استكمال القافية على القواعد العروضية، من غير أدنى اهتمام بالإيلاف بين العبارة والحشو، أو تكامل المعاني والمباني.

ولعمري إنه لا يسوغ الحشو إلا إذا جاء عفواً صفواً، يعبر عن المقصود، أو يتصل به بسبب معقول.

وبغير ذلك فإننا نكون قد كلفنا طالب العلم بحفظ الحشو، زيادة على حفظ المتن، وهل هذا إلا عبء على عبء، وعناء على عناء، وتكلف لا داعي له، ولا مسوغ له إلا ضعف الناظم ووهى عبارته.

ولا شك أن أفضل المنظومات تلك التي نظمها العلماء الشعراء أصلاً، الذين طاعت لهم العبارة ووافتهم الإشارة، وخدمتهم الكلمات وائتمرت بأمرهم العبارات، فلم يجيئوا إلى فن المنظومات مُتَقَحِّمين، ولم ينظموا متكلفين، وكما جاءت قرائحهم بشعر غني بالمشاعر، وافتهم كذلك بنظم لين سهل طافح بالمعرفة.

ومن هؤلاء أبو محمد القاسم بن فيرَّة الرعيني الشاطبي صاحب حرز الأماني، ومحمد بن علي الرحبي صاحب بغية الباحث عن جمل الموارث، ولا شك أن المتذوق للشعر العربي يطرب أيما طرب حين يطالع في الأعمال المتميزة لهؤلاء الأئمة.

ولست أقصد بأن العلماء الشعراء أفرغوا عواطفهم ومشاعرهم في هذه المنظومات كما يصنعون في الشعر، فهذا لا طائل تحته في هذا الفن، وإنما كان توفيقهم أكبر من حيث طاعت لهم العبارة، وخدمتهم المترادفات، إذ لا يراد بالنظم ما يراد بالشعر، فكل له مقاصده ووسائله، ولكن قوة السبك مطلوبة في كل واحد من الفنَّين، والعلماء الشعراء على ذلك أقدر من العلماء الذين لم يشتغلوا بالشعر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015