وَقَوْلنَا: " قَائِما حِين الْإِسْقَاط " خرج بِهِ خِيَار الرُّؤْيَة فَإِنَّهُ لَا يسْقط بالإسقاط لِأَنَّهُ غير قَائِم للْحَال، لِأَنَّهُ يثبت بعد الرُّؤْيَة لَا قبلهَا، فَإِذا أسْقطه قبلهَا لَا يسْقط بالْقَوْل بل بِالْفِعْلِ عِنْد أبي يُوسُف كَمَا تقدم.
وَكَذَا حق الشُّفْعَة قبل البيع، فَلَو أسْقطه الشَّفِيع قبله لَا يسْقط، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يثبت بعد البيع.
وَخرج بِهِ الِاسْتِحْقَاق فِي الْوَقْف قبل بَدو الْغلَّة فَإِنَّهُ لَا يسْقط، لِأَنَّهُ لَيْسَ قَائِما للْحَال لِأَن حق الْمُسْتَحق يتَعَلَّق بالغلة عِنْد ظُهُورهَا لَا قبله.
وَخرج بِهِ حق انْتِفَاع الْمُسْتَعِير بالعارية فَإِنَّهُ لَا يسْقط، لِأَن الْمَنْفَعَة لَيست قَائِمَة بل تحدث شَيْئا فَشَيْئًا على ملك الْمُسْتَعِير كَمَا فِي الْإِجَارَة. وَمثله حق الزَّوْجَة فِي الْقسم، وَحقّ الحاضنة فِي الْحَضَانَة، فَإِنَّهُمَا لَا يسقطان، لِأَنَّهُمَا يتحددان آناً فآناً.
وَقَوْلنَا: " خَالِصا للمسقط أَو غَالِبا " خرج بِهِ مَا كَانَ حَقًا لغير الْمسْقط، خَالِصا فِيهِ أَو غَالِبا أَو مُسَاوِيا. فَالْأول: كحق تَحْلِيف الْخصم الْيَمين لِأَن التَّحْلِيف حق الْحَاكِم. وَالثَّانِي: حق الْقَذْف، فَإِن حق الله تَعَالَى غَالب فِيهِ. وَالثَّالِث: كحق الْمضَارب فِي بيع مَال الْمُضَاربَة بَعْدَمَا صَار عرُوضا، فَإِن حَقه لَيْسَ بغالب بل يُسَاوِيه فِيهِ حق رب المَال أَو يغلب، إِذْ رَأس المَال عَائِد إِلَيْهِ وَله شركَة فِي الرِّبْح، وَالْمُضَارب إِنَّمَا اسْتَفَادَ التَّصَرُّف من جِهَته.
وَخرج بِهِ أَيْضا حق الْفَسْخ فِي الْعُقُود الْفَاسِدَة، فَإِنَّهُ حق خَالص لَهُ سُبْحَانَهُ أَو غَالب، حَتَّى لَو أصر عَلَيْهِ المتعاقدان وَعلم بِهِ القَاضِي فَسخه، قَالَ الكاساني: " إِن حق الْفَسْخ فِي البيع الْفَاسِد لَا يبطل بِصَرِيح الْإِبْطَال والإسقاط لِأَن وجوب الْفَسْخ فِيهِ ثَبت حَقًا لله تَعَالَى دفعا للْفَسَاد، وَمَا ثَبت حَقًا لله تَعَالَى خَالِصا لَا يقدر العَبْد على إِسْقَاطه مَقْصُودا كَخِيَار الرُّؤْيَة، لَكِن قد يسْقط بطرِيق الضَّرُورَة بِأَن يتَصَرَّف العَبْد فِي حق نَفسه مَقْصُودا فيتضمن ذَلِك سُقُوط حق الله عز وَجل، وَذَلِكَ كَمَا إِذا بَاعَ الْإِنْسَان مَا اشْتَرَاهُ فَاسِدا أَو وهبه أَو تصدق بِهِ بَطل حق الْفَسْخ. (ر: الْبَدَائِع 5 / 297 و 301) .