ثم لما جاء عبد الله بن سعيد بن كلاب، وجماعة من المتكلمين وبعض المتصوفة؛ كـ الحارث بن أسد المحاسبي؛ صار هؤلاء ينتسبون إلى مذهب أهل السنة والجماعة، مع إظهارهم لشيء من البدع؛ إما في مقام الصفات، أو في مقام القدر، أو غير ذلك، فحصل من هذا التاريخ الذي توافق فيه عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهو أخص من تكلم في مسائل الصفات الفعلية وهو ينتسب إلى السنة والجماعة- حصل من كلام عبد الله بن سعيد ومن شاركه في هذا الكلام من متكلم أو متصوف ظهور قوم ينتسبون إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ويعظمون جُمَلَهُمُ العامة، ويعظمون أسماء أئمتهم؛ ولكنهم وقعوا في كثير من البدع المخالفة لإجماع أئمة السنة والجماعة المتقدمين من الصحابة ومن بعدهم.
ولكن هؤلاء هم أقرب إلى السنة والجماعة من أهل البدع الذين لم يكن أحد منهم ينتسب إلى السنة والجماعة.
ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: "أهل البدع المغلظة لا ينتحلون مذهب أهل السنة والجماعة".
فالغالب؛ بل الأصل العام في هذه البدع المغلظة أن أصحابها لا ينتسبون إلى السنة والجماعة وطريقة الأئمة، بل هم متحيزون ببدعهم، وعندهم من الطعن في أئمة السنة والجماعة ما هو معروف.
ولعله يُذْكَر ما شاع في التاريخ من موقف أئمة المعتزلة من الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة؛ حتى إنهم أفتوا بقتل أئمة السنة لما رأوا من السلطان ميلاً لهم إذ ذاك.
وهذا يبين لنا عدل أهل السنة والجماعة: أنهم يقضون بين الناس بالحق، ولا يقابلون الأمر بالأمر؛ فضلاً عن أن يبغوا على أحد، فإن السلطان كان موافقاً لمذهب أئمة السنة والجماعة في جملة الدولة الأموية والدولة العباسية فضلاً عما قبل ذلك، ومع ذلك لم ينقل أن أحداً من أئمة السنة والجماعة قصد إلى قتل سائر المخالفين بالسيف، بخلاف المعتزلة عندما كان المأمون العباسي مائلاً إلى طريقتهم ومنتصراً لها، ثم جاء بعده المعتصم العباسي، وأفتى من أفتى من أئمة المعتزلة بقتل الأئمة الذين لا يقولون بخلق القرآن.
أما عبد الله بن سعيد بن كلاب وبعض أفراد طبقته من متكلم أو متصوف، فقد انتسبوا لأهل السنة والجماعة، ولذلك فإن ابن كلاب إذا ذكر بعض المقالات يقول: وقول أهل السنة الذي نقول به.
وأحياناً يذكر لأهل السنة قولين، وفي الحقيقة ليس لهم إلا قول واحد.
إذاً: هؤلاء انتسبوا لأهل السنة والجماعة، وأيضاً وافقوا أهل السنة والجماعة في مسائل لم تكن المعتزلة أو غيرها يوافقونهم فيها، ولكنهم مع موافقتهم لهم في بعض المسائل، ومع انتسابهم للسنة والجماعة، إلا أنهم خالفوا السنة في مسائل كثيرة، إما في الصفات، أو في القدر، أو في غير ذلك.
ثم جاء بعد ذلك إمامان مشهوران، وهما: أبو الحسن الأشعري، وأبو منصور الماتريدي الحنفي، وقد كانا في عصر واحد؛ لكن الأشعري كان في بلاد العراق وما إليها، والماتريدي كان في بلاد ما وراء النهر.
وبعد رجوع الأشعري عن مذهب المعتزلة انتسب هذان الرجلان لأهل السنة والجماعة، وصارا من جنس عقيدة عبد الله بن سعيد بن كلاب.
فتحصل من هذا: أن أقواماً يخالفون طريقة الأئمة المتقدمين في مسائل أصول الدين؛ في التوحيد، أو في الإلهيات ..
في الصفات، أو في القدر، أو في غير ذلك، ويوافقونهم في مسائل أخرى، وينتسبون إلى الأئمة؛ ولكنهم ليسوا على علم مفصل بكلام الأئمة، ولعل هذا أخص الأسباب في عدم تحقيقهم لأقوال السلف الأول، وهو أنهم لم يكونوا على علم مفصَّل بأقوالهم.
أضف إلى ذلك: أن الأشعري والماتريدي جاءا في عصر استقرت فيه المدارس الفقهية، وكثر الانتساب لأحد هذه المدارس: إما الشافعية، أو الحنفية، أو المالكية، أو الحنبلية، أو ما إلى ذلك.
فلأجل هذا الجامع الفقهي بين العلماء في أكثر موارد التاريخ بعد عصر الأئمة، ولكون هؤلاء ينتسبون إلى السنة والجماعة؛ لم يكن هناك في كثير من الأحوال قدر من التمييز لما كان من الأقوال صواباً، وما كان من الأقوال خطأً.
بمعنى: أن الفقهاء الذين ينتسبون للأئمة الأربعة، أتباع الإمام مالك، وأتباع أبي حنيفة، وأتباع الشافعي، وأتباع أحمد، من هؤلاء من هو على عقيدة إمامه على التحقيق؛ كـ أبي عمر ابن عبد البر من أصحاب مالك مثلاً، ومنهم من اختلط عليه الأمر، بمعنى: أنه تأثر بجمل من جمل الأئمة، وتأثر بجمل من جمل هؤلاء المتأخرين الذين اختلطت عندهم السنة بالبدعة.
فلهذا السبب صار عند هؤلاء -أتباع الأشعري، والماتريدي، فضلاً عن أتباع ابن كلاب، ومن يشارك هؤلاء من متكلم، أو متصوف، أو فقيه، أو مستعمل لطريقة أهل الحديث؛ كـ البيهقي مثلاً- صار عندهم أخطاء في مسائل، وصواب في مسائل، وتعظيم لطريقة أهل السنة والأئمة من جهة الانتساب والانتصار، والرد على أهل البدع المغلظة من أصول المخالفين المتقدمة.
لقد جاء الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذا العصر، وهو عصرٌ الشيوع والغلبة في كلام الفقهاء إذ ذاك لمثل هذا النوع؛ ولذلك حصل له مناظرات مع فقهاء وقضاة من الشافعية، والمالكية، والحنفية، ناظروه وتكلموا معه لأنهم كانوا على أصول أبي الحسن الأشعري، ولم يكونوا أيضاً محققين لأصول أبي الحسن الأشعري؛ بل كانوا مائلين إلى الطريقة المتأخرة التي ركَّبها أبو المعالي الجويني من أصحاب الأشعري، وطريقة الأشعري خير من طريقة متأخري أصحابه.
ومما سبق نعلم أن العصر الذي أدركه الإمام ابن تيمية رحمه الله هو العصر الذي انتشرت وشاعت فيه المقالات التي ينتسب أصحابها للسنة والجماعة، وقد يصيبون في مقام، ولكنهم يخلطون ويخطئون ويخرجون عن السنة في مقامات كثيرة؛ سواء في مسائل الصفات، أو في مسائل القدر، أو غيرها.
ولذلك إذا قرأنا في كلام شيخ الإسلام لا نجد له تفصيلاً واسعاً في تتبع بعض المقالات، مثل مقالة الجبرية الغالية؛ لأن هذه المقالة حتى من كان يخالفه من معاصريه كانوا مخالفين لها، وإنما عُنِي رحمه الله ببيان امتياز طريقة الأئمة المتقدمين عن بعض الطرق المتأخرة التي خلط أصحابها الحق بشيء من الباطل، فكان مقصوده هذا التمييز مع عنايته رحمه الله بمقام العدل؛ ولذلك لم يكن يكفر المخالفين المنتسبين للسنة والجماعة، وإن كان عندهم بدع شديدة في بعض المسائل؛ كالعلو مثلاً، فإنه ناظر بعض المتكلمين في مسألة العلو، ومعلوم كلام السلف في هذه المسألة؛ ولكنه كان يلتزم بالأصل المعروف وهو: أن ثمة فرقاً بين المقالة وبين قائلها، وأنه لا يلزم من الحكم على المقالة أن يكون الحكم مطرداً على جهة التسلسل واللزوم فيمن قال هذه المقالة؛ بل لا بد من مقدمات، ومن قيام حجة ..
إلى غير ذلك.