وهناك فرق بين الفلاسفة وبين المتكلمين، وأخص تلك الفروق: أن المتكلمين لهم طريقة في تحصيل مسائل أصول الدين مبنية على أن نصوص الصفات قد نطقت بالحق، ولكنها تحتاج إلى تأويل عن ظاهرها، فهي حق إذا ما أولت، أما قبل تأويلها فإنها لا تدل على الحق في زعمهم.
أما ابن سينا وأمثاله من الذين صرحوا بالفلسفة وانتحلوها، ودافعوا عنها، فيرون أن الحق في باب صفات الرب، وفي باب ذاته، ووجوده، وأفعاله، وما إلى ذلك، يرون أن الحق في هذا الباب لم ينطق به القرآن، وإنما غاية ما في القرآن كما يقول ابن سينا: "إشارة مجملة إلى هذا التوحيد"، وإذا سألته: من أين يحصل ذلك؟ قال: يحصل الحق من الحكمة، ويقصد بالحكمة (الفلسفة)، فإن قيل له: أليس القرآن هدايةً للناس؟ فإن جوابه وجواب غيره من المتفلسفة: بلى! إن هذا القرآن هداية للبشرية، لكنه هداية للعامة، وأما الخاصة -على زعمه- فيرون أن الحق لم يذكر في القرآن؛ لقوة هذا الحق، وشدته، فلا تحتمله عقول العامة.
فالخاصة يحصلون الحق من الحكمة -أي: من الفلسفة- وأما العامة فإنهم يكتفون بهذه الظواهر؛ لأن عقولهم لا تستوعب إلا هذا.
ومن الفروق بينهم: أن المتفلسفة ينتسبون إلى الفلسفة، وأما المتكلمون فإنهم لا ينتسبون إليها؛ بل يطعنون فيها.
ولكن من حيث نتائج المذهبين فإنهم يشتركون في بعض النتائج؛ كتعطيل الصفات عن حقيقتها الشرعية، ويختلفون في المقدمات.
فمثلاً: ابن سينا لا يوجد في كتبه تأويل؛ بل إن ابن سينا شنع كثيراً على المعتزلة في مسألة التأويل، وقال: "إن نصوص القرآن لا تقبل التأويل"، وقد قال ذلك لأنه يزعم -تعالى كلام الله عن ذلك- أن هذا القرآن ليس هداية للخاصة، وإنما هو خطاب للعامة، فيقول: يجب أن يترك على ما هو عليه، بخلاف المعتزلة؛ فإنهم قالوا: إن الحق في حق الخاصة والعامة موجود في القرآن، ولكنه بحاجة إلى تأويل.
فهذا فرق بين الطائفتين في المقدمات، ولكن لا شك أن طريقة ابن سينا أضل.