قال المصنف رحمه الله: [وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] والصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن، وهي الأصل في هذا الباب.
وقال في حق المسيح وأمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] فجعل ذلك دليلاً على نفي الألوهية، فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى].
من الأدلة على تقرير مسألة الربوبية لله وحده: أنه لما ألَّه أهل الكتاب عيسى بن مريم وأمه، قال الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] والدليل في هذه الآية على عدم ألوهيته وربوبيته: أنه يأكل الطعام، والإله الحق لا يأكل الطعام، وهذا من بسائط الاستدلال، وقال الله لأهل العجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] وقال إبراهيم لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42] فعلم أن مادة الكمال من النتائج المهمة.
والأنبياء والرسل كانوا يخاطبون قومهم، وهم مشركون كفار، ينازعون في مقام الربوبية -كانوا يخاطبونهم بمثل قول الله تعالى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42] وقوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] فعلم بذلك أن ثمة استقراراً عقلياً عند المخاطبين أن عدم الكلام نقص، وأن الأكل والشرب نقص، وأن عدم السمع والبصر نقص، ولكن هذا الباب قد اضطرب على قوم من أهل القبلة، لما استعملوا ما استعملوه من الطرق الباطلة، وهي الطرق الفلسفية، التي ليس فيها تحقيق للحق ولا إبطال للباطل، ولا إبقاء لمدارك العقول على أصلها واستقرارها الأول.
فإن قال قائل: فكيف كان هؤلاء المشركون أكثر استقراراً في هذا الباب؟ قيل: كانوا أكثر استقراراً في هذا الباب لأنهم لم يستعملوا طرقاً توجب إفساد المادة العقلية؛ فضلاً عن المادة الفطرية، بخلاف الطرق التي دخلت على قوم من المسلمين.
وإن كان هؤلاء المسلمون -بلا شك- خيراً من أولئك من أهل الكتاب وغيرهم، فإن هؤلاء المسلمين الأصل فيهم الإسلام، وإن كانوا قد وقعوا في أخطاء؛ بخلاف أولئك فإنهم ليسوا بمسلمين، ولا يدينون بدين الإسلام، لكن الحقائق والمعاني قد يكون عند بعض الكفار بعض المعنى الصحيح الذي يفوت بعض المسلمين، ولا نقول: إنه يفوت المسلمين، ولا نقول: إنه ليس في الإسلام، فإن ما كان غلطاً امتنع أن يكون من الإسلام، وما كان غلطاً امتنع أن يكون عليه المسلمون.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) , فدل على أن مادة التشبه تدخل على المسلمين، فربما تشبه بعض المسلمين ببعض طرق قوم من غير المسلمين، ويكون هؤلاء الذين تُشُبه بهم من شر طوائف الكفر، ويوجد في الكفار من هو أقرب منهم إلى الحق، كما يوجد ذلك في كتاب الله، فإن الله لما ذكر أهل الكتاب بين أنهم أقرب إلى الحق في الجملة من عبدة الأوثان، ولما ذكر أهل الكتاب بين أن بعضهم أقرب إلى الحق من البعض الآخر.
قال رحمه الله: [والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد، فإنها للعمل والفعل، وهو سبحانه وتعالى موصوف بالعمل والفعل؛ إذ ذلك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل].
هذا وجه من أوجه التفريق بين صفة اليدين وبين الأكل والشرب، وهناك وجه آخر أبسط منه، وهو يقود إلى هذا الوجه، وهو أن يقال: إن اليدين صفة قائمة بالرب سبحانه وتعالى، فلا يرد عليها أنه محتاج إلى ما سواه؛ لأن ما كان صفة للموصوف كان داخلاً في اسم ذاته، أي: في حقيقة وماهية الذات.