قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع، فما جاء السمع به أثبته، دون ما لم يجئ به السمع.
قيل له: أولاً: السمع هو خبر الصادق عما هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات، والخبر دليل على المخبَر عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع إذا لم يكن قد نفاه].
بين المصنف أن عدم الدليل السمعي حقيقته هو عدم الدليل المعين، وعدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول؛ لأنه يمكن أن يثبت بغيره، بمعنى: أنه لو سلم جدلاً أن الدليل السمعي دل على هذه وحدها، فإن عدم الدليل المعين ليس دليلاً على عدم الدليل من كل وجه، وهذا يقال لمثبتة الصفات الخبرية، كما يقال لمثبتة الصفات السبع، كما ذكر المصنف سابقاً فقال: (قولهم: إن الدليل على تخصيص هذه السبع في الإثبات هو العقل.
يجاب عنه من وجوه، منها: أن عدم الدليل العقلي ليس علماً بعدم الدليل)، فإنه لو لم يدل العقل إلا على هذه وحدها -جدلاً- فإن: غيرها قد ثبت بدليل السمع.
مع أنه معلوم أن الدليل السمعي لم يدل على هذه الصفات السبع، أو على الصفات التي تسمى بالصفات الخبرية وحدها، كالوجه واليدين؛ بل إنه قد دل على المحبة، والرضى، والغضب، وغيرها من الصفات التي يعلم أنها ذكرت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [ومعلوم أن السمع لم ينف كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلا بد من ذكر ما ينفيها من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها، كما لا يجوز إثباتها.
وأيضاً فلا بد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفى عنه، فإن الأمور المتماثلة في الجواز والوجوب والامتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض بالجواز والوجوب والامتناع، فلابد من اختصاص المنفي عن المثبت بما يخصه بالنفي، ولا بد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت].
المصنف هنا يعالج أصولاً للمذاهب، فإن من أثبت ما يسمى بالصفات الخبرية كالوجه واليدين، فإن هذا الإثبات لا شك أنه حق ويحمد لهم، لكن المصنف ينظر إلى الأصول التي يثبتون بها هذا الإثبات، فيقول: إن من يعلق إثباته للوجه واليدين ونحوها من الصفات الخبرية على حجة أن هذه ورد السمع بها، فلما ورد السمع بها تعذر عليه نفيها، فلزم أن يثبتها من غير تشبيه، فمن كان من هؤلاء لا يشهد فرقاً بين صفة اليدين وبين صفة الأكل والشرب، إلا أن صفة اليدين جاء بها السمع، وصفة الأكل والشرب لم يأت بها السمع من كان هذا هو مقام إثباته ونفيه فقد وقع في الغلط؛ لأنه يجوز في نفس الأمر أن تكون صفة الأكل والشرب مما أثبته السمع، ولذلك فلا علة لنفيها عنده إلا أن السمع لم يأتِ بها، ولا سيما أن هذا التعليل يأتي إذا ضاق عليه الأمر وسئل: بم أثبت صفة الوجه واليدين؟ قال: بالسمع، فكأن المسألة لا دخل لها بالكمال ولا بالنقص، والحقيقة أن صفة اليدين جاء بها السمع، لكنها صفة كمال، بخلاف صفة الأكل والشرب، فإنها لم يأتِ بها السمع، لكنها صفة نقص.
ومعلوم أن تفصيل النفي لم ينطق به السمع في الجملة إلا في مقامات مختصة سبقت الإشارة إليها.
إذاً: مراد المصنف رحمه الله أن المخالفين ينقسمون إلى قسمين: إما مخالف في أصل إثبات، بمعنى: أنه ينفي ما هو من الصفات، وإما قوم أثبتوا ما أثبتوه من الصفات، واشتركوا مع أئمة السنة في الإثبات؛ لكنك إذا راجعت أصولهم في الإثبات وأصولهم في النفي؛ وجدت أنها أصول مضطربة متناقضة، فهو يريد أن يعالج المسألة من جهتين:
الجهة الأولى: جهة النفاة نفياً صريحاً، أو المخالفين مخالفة صريحة في الدلائل والمسائل.
الجهة الثانية: هم القوم الذين يشاركون أهل السنة في جملة من النتائج، ولكنك إذا رجعت إلى المقدمات عندهم؛ وجدت أنها مقدمات ليست منضبطة.
قال رحمه الله: [وقد يعبر عن ذلك بأن يقال: لا بد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله تعالى، كما أنه لا بد من أمر يثبت له ما هو ثابت، وإن كان السمع كافياً كان مخبراً عما هو الأمر عليه في نفسه، فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا؟
فيقال: كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر، فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القدم -علم امتناع العدم والحدوث عليه، وعلم أنه غني عما سواه].
وهذا مقام عرض لبعض متكلمة الصفاتية، ولا سيما الذين غلب عليهم تعظيم السنة والأئمة، فإنهم لما كان بعضهم مائلاً إلى المعتزلة، ثم اشتغلوا بالرد عليهم لما ظهرت السنة، وانفكت بعض الممانعات التي كانت متبناة من قبل بعض السلاطين -صار هؤلاء يقصرون الإثبات على محض السمع، بمعنى: أن ما يثبتونه لا يكون إلا سمعياً من حيث الدلائل، أو من حيث المسائل، أو يقال: يجعلون المقدمة سمعية والنتيجة سمعية، ويجعلون هذا وجهاً فاضلاً في مفارقة المعتزلة، فإذا قيل لهم: فالوجه واليدين؟ قالوا: نثبتها خلافاً للمعتزلة، فالنتيجة أنهم أثبتوها بخلاف المعتزلة, فإذا قيل لهم: فما موجب إثباتها؟ قالوا: لأن السمع جاء بها.
وهذا الكلام سياقه ليس فيه اطراد، فلا يفهم أحد اطراداً في هذا الكلام؛ لا في كلام المصنف، ولا في هذا الشرح.
وهذا الكلام من حيث الجملة كلام صحيح، وهو قولهم: نثبت الوجه واليدين، هذا لا اعتراض عليه، فإن قيل: ما الدليل على إثباته؟ قالوا: السمع، وهذا الكلام أيضاً صحيح لا إشكال فيه.
لكن فرق بين أن يأتي هذا السياق ضمن مفهوم صحيح من مسألة النفي والفرق بين النفي والمنفي، وبين أن يأتي على باب أن هذا نطق به السمع، وأن ثمة صفات أخرى لو نطق بها السمع لسلمنا بها.
فإن قيل لهم: ما الفرق بين اليدين وبين الأكل والشرب ونحوها؟ لم يكن عندهم فرق إلا أن هذه جاء بها السمع، وهذه لم يأت بها السمع، وقد فات أصحاب هذه الطريقة أنهم لم يحققوا ويفقهوا حقائق الكمال اللائقة بالله سبحانه وتعالى، وحقائق النقص والعيب التي ينزه الله سبحانه وتعالى عنها، فهم يثبتون ما يثبتونه لا لكونهم فقهوا أنه كمال، وإنما لكون النص جاء به، وينفون ما ينفونه لا لكونهم فقهوا أنه ليس بكمال، أو أنه نقص ينزه الله عنه، وإنما لعدم مجيء النص به.