الاعتماد في نفي ما ينفى على نفي التشبيه لا يفيد في مقام الاحتجاج

قال المصنف رحمه الله: [وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد؛ إذ ما من شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك مما هو سبحانه وتعالى مقدس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة].

قوله: (وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد):

هذا في ذكر مقام الاحتجاج، وإلا فمعلوم أن الله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة مخلوقاته، وأن التشبيه قد استقر عند سائر أهل العلم بل عند جماهير المسلمين أن الله منزه عنه، ولكن قول المصنف رحمه الله: (إن مجرد الاعتماد) أي: في باب الاحتجاج، (على مجرد نفي التشبيه لا يفيد)، وقوله: (لا يفيد) فيه قدر من التعيين لمراده, بمعنى: أنه لا يصح أن يفهم أحد عن المصنف أنه يصف الله بالتشبيه، فإن قوله في هذه الحجة بهذا الوجه، ليس معناه أنه يقول: إن الله موصوف بالتشبيه، وإنما مقصوده: أنه إذا ذكرت الحجج في مقام الإثبات ومقام النفي، فإن تعليق الحجة على هذا اللفظ -وهو لفظ التشبه- لا يكون محكماً من كل جهة؛ لأن هذا اللفظ متضمن لقدر من الاشتراك، فضلاً عما أدخل عليه من الاشتراك؛ ولهذا فإن من نفى صفات الله سبحانه وتعالى من المعتزلة ونحوهم يجعلون الحجة في نفيهم: أن هذا الإثبات يستلزم التشبيه.

فيقول المصنف: إن كلمة التشبيه من هذا الوجه كلمة مجملة متضمنة لغير معناه، فإن التشبيه إذا ما فسر بالاشتراك في الاسم فهذا وجه، وإذا فسر التشبيه بالاشتراك في المسمى الكلي الذهني فهذا وجه آخر، وإذا فسر التشبيه بالاشتراك فيما هو من الخصائص فهذا وجه ثالث، فإن المصطلح والمخالف لطائفة قد يسمي هذا تشبيهاً، أو هذا تشبيهاً، أو هذا تشبيهاً.

ولذلك يقول: إن المعتزلة عندما جعلت الاشتراك في المسمى الكلي تشبيهاً، وذهبت تتأول الصفات، لأن هذا من التشبيه الذي نفاه القرآن، قال: فإن هذا يمكن أن يتسلسل عليهم في سائر الموارد، بمعنى: أنه يتسلسل في موارده الثلاثة: في باب الاسم واللفظ، أو في باب المسمى الكلي الذهني، أو فيما هو من الخصائص.

وإن كان يعلم بالضرورة أن المصنف إذا ما ورد عليه ما يتعلق بالوجه الثالث -وهو الاشتراك فيما هو من الخصائص- فإنه لا شك ينفي التشبيه بهذا المعنى؛ فإنه لا هو ولا غيره من أهل السنة؛ بل ولا من جماهير المسلمين؛ بل لا يوجد أن أحداً من المسلمين يلتزم بمسألة الخصائص التزاماً مطلقاً؛ أي: يقول بأن المخلوق تتحقق له صفات الكمال المطلق اللائقة بالخالق، أو يقول بأن الخالق تتحقق له صفات النقص اللائقة بالمخلوق، أي: أن تكون الصفة المضافة إلى الخالق هي من حيث الماهية والحقيقة بمعنى الصفة المضافة للمخلوق، فلا يفرق بين ما أضيف إلى الله سبحانه وتعالى، وبين ما أضيف إلى المخلوقين، بل يقول: إن عين صفة الخالق من حيث المعاني المختصة الإضافية هي عين صفة المخلوق، فيجعل صفة الله كصفة خلقه؛ وهذا قدر من التشبيه، أو يقول بعكس ذلك، فيجعل صفات بعض المخلوقين كصفات الباري المطلقة بالكمال.

فهذا الوجه من التشبيه قد اتفق المسلمون على إبطاله، وإن كان بعض أهل القبلة -وهم من سموا بالمجسمة وغيرهم- قد عرض لهم مقام من هذا التشبيه، ودخلت عليهم مادة من هذا التشبيه، لكن الذي يقصد قوله: أنه لم ينضبط عن أحد من المسلمين أنه قال: إن الباري مثل المخلوق من كل وجه، أي: لم يجعل ثمة فرقاً بين الخالق والمخلوق، فإن من التزم بهذا القول على هذا التحقيق والجزم والكمال؛ فإنه لا يكون من أهل القبلة، وإن كان يقال: إن مادة من التشبيه الذي قد علم إبطاله بالإجماع قد دخلت على بعض أصحاب الطوائف كالمجسمة.

ثم إن المصنف لم يقصد منع تسمية ما يعلم نفيه -وهو ما لا يليق به سبحانه وتعالى من المعاني المشابهة أو المماثلة لصفات المخلوقين- لم يقصد منع تسمية هذا من باب التشبيه، فإنه ينفيه؛ بل ويسميه نقصاً، ويسميه أيضاً تشبيهاً.

وقد سبق في تقريره لمذهب أهل السنة أن قال: إنهم يثبتون صفات الله من غير تشبيه ولا تمثيل.

إذاً: لا بد أن يفهم كلامه هنا أنه لا يقصد عدم القول بنفي التشبيه عن الله سبحانه وتعالى، وإنما يقول: إنه في باب الاحتجاج إذا ما كانت الحجة مبنية على هذا اللفظ الذي دخله كثير من الاشتراك من وجه آخر، فإنّ هذه الحجة لا تكون منضبطة على هذا التقدير؛ لأنه يلزم أن تكون مطردة في سائر مواردها الثلاثة، فإذا ما جوز واحد منها، فقد ينازع المنازع في تجويز غيره، وإذا ما نفي واحد منها، فقد ينازع المنازع في نفي غيره.

فهذا وجه من كلام المصنف: أنه يقول: إن التشبيه هنا يراد به الشبيه في الاسم، أو في المسمى الذهني، أو في المعنى الإضافي المختص، فهنا قال: إن نفي التشبيه لا يفيد في مقام الاحتجاج؛ لأنه إن جُوز وجه واحد من هذا التشبيه؛ فإن المنازع قد يحتج على جواز غيره، وإذا نفي واحد منها، فإن المنازع قد يحتج على نفي غيره، ومن المعلوم شرعاً وعقلاً أن نفي واحدٍ من هذه الأوجه عند التحقيق لا يلزم منه النفي للآخر، كما أن إثبات واحد منها لا يستلزم شرعاً وعقلاً إثبات الآخر؛ فإن من قال: إن الاشتراك في الاسم المطلق تشبيه، وجوز ذلك، وصححه؛ لم يلزم منه أن يجوز غيره، وإن كان ينازَع في تسمية هذا تشبيهاً؛ بل يقال: إن هذا ليس من باب التشبيه، لكن تصحيح المعنى هنا لم يستلزم تصحيح المعنى الثاني.

ولذلك لو قال: إذاً أجوز غيره من الأوجه ولا أسميها تشبيهاً، قيل: هذا لا يصح، فإن جواز واحد منها -وهو الاشتراك في الاسم المطلق- لا يستلزم أن يجوز الثالث، وهو الاشتراك في الخصائص، أو يقال: الاشتراك في المسمى الذهني لا يستلزم الاشتراك في الخصائص، كما تقدم أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التطابق في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص.

إذاً: هذا هو معنى كلام المصنف رحمه الله، فإنه عندما قال هذا الكلام، لم يقصد به أن ما لا يليق بالباري سبحانه وتعالى يمنع أن يسمى تشبيهاً؛ بل ما ينفى عنه سبحانه وتعالى لك أن تقول: إن الله منزه عن هذا؛ لأنه نقص وعيب وتشبيه بما لا يليق بالله من خصائص المخلوقين.

كما أنه ليس معنى كلام المصنف أن ما يكون ثابتاً في نفس الأمر يجوز أن يسمى تشبيهاً بإطلاق، والثابت في نفس الأمر عند أهل السنة هو الاشتراك في الاسم المطلق، فالمصنف لا يقول: إن هذا يسمى تشيبهاً بإطلاق، فهو لم يقصد نفي الأول، ولا إثبات الثاني، وإنما مقصوده ما تقدم، ولعله قد تحقق مراده هنا.

وقد غلط بعض المعلقين على هذه الرسالة، فعلق على كلام المصنف بما لا يصح ولا يجوز أن ينسب إليه أو إلى أمثاله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015