قال المصنف رحمه الله: [وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة: وهي أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو في كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير].
قوله: (وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة):
أي: ما سبق ذكره في القاعدة الثالثة، أو المعاني المتضمنة فيما ذكر قبل ذلك، فإنه ذكر في القاعدة الثالثة مسألة الظاهر، وأن هذا اللفظ صار لفظاً مشتركاً باستعمال بعض المستعملين له، فقال: (وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة)، وهذا كقوله في أول الرسالة: (ويتبين هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين).
وهذا الربط في المعاني والقواعد هو من باب التسلسل العلمي، ولا شك أنه من فقه المصنف وضبطه لتقريره؛ فإن الاطراد في المعاني لابد أن يكون وجهاً من أوجه الفقه في كلام أهل العلم؛ ولذلك كلما كان الناظر في كلام العلماء عارفاً بمسائل اطرادهم، سواء من جهة الدلائل، أو من جهة الأقوال نفسها، أو بموجب هذه الأقوال أو القرائن في هذا الباب أو غيره، فإن هذا نوع من الفقه، وبه يعلم الناظر ما يبنى من المسائل على بعض، وما يتفرع من المسائل عن البعض الآخر ..
وهكذا.
وقوله: (وهي أن كثيراً من الناس):
ولم يقل: جميع الناس، أو ما إلى ذلك؛ لأنه من المعلوم إذا ذكر جمهور المسلمين فليس المقصود بذلك جمهور الطوائف، وإنما المقصود بجمهور المسلمين: هم جمهور أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن العامة من المسلمين الذين لم تشوش مذاهبهم أو لم يشوش نظرهم وإدراكهم وبصائرهم، فإنهم لا يفقهون من القرآن ومن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن الله موصوف بالكمال، منزه عن النقص، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ولذلك فإن النظار من المتكلمين في هذه المسائل، إنما أخطئوا وضلوا لما أدخلوا ما سموه (علم الكلام) على مداركهم وعلى تحصيلهم، ولو استقروا على أصل لسان العرب، وفقهوا القرآن على أصل هذا اللسان، وأخذوا الكتاب والسنة على ما جاء ذكره في كلام الله أو كلام رسوله؛ لما ظهر عندهم هذا الإشكال.
فالمقصود: أن كثيراً من النظار الذين غلطوا في هذا الباب من أهل القبلة، من المعتزلة أو غيرهم، قال: (يتوهم في بعض الصفات، أو كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين)، وهذا التعدد في كلام المصنف هو فرع عن تعدد المذاهب؛ فإن البعض من النظار إنما يتوهم هذا في بعض الصفات، كما هي طريقة متقدمي متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة؛ كـ عبد الله بن سعيد بن كلاب وجماعته؛ من متكلم أو متنسك متصوف كـ الحارث بن أسد المحاسبي ونحوه.
فهذه هي طريقة المتقدمين من متكلمة الصفاتية الذين توهموا ذلك في بعض الصفات.
وقوله: (أو كثير منها) وهؤلاء عندهم توهم أكثر من النوع الأول، وهذا هو الذي غلب على جمهور متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة من أصحاب أبي الحسن الأشعري , وأصحاب أبي المنصور الماتريدي، وهؤلاء -ولا سيما أصحاب أبي الحسن الأشعري - هم أكثر توهماً في هذا الباب من متقدمي أصحابهم؛ كـ أبي الحسن الأشعري، وعبد الله بن سعيد بن كلاب وأمثال هؤلاء، ومعلوم أن عبد الله بن سعيد بن كلاب جاء قبل أبي الحسن الأشعري، لكن الأشعري وأمثاله نسجوا على طريقته في الجملة والصفات؛ ولذلك ذكر ابن حزم أنه شيخ قديم للأشعري، والبغدادي -وهو من متكلمة الأشعرية- تجد أنه في كلامه ربما قال: "وذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري "، وربما قال أيضاً: "وذهب شيخنا عبد الله بن سعيد بن كلاب ", فبناء هذا المذهب على بعض كلام ابن كلاب أو على جملة قوله شيء مشهور حتى عند الأشعرية أنفسهم.
وقوله: (أو أكثرها) وهذا هو الذي غلب على الغلاة من متكلمة الصفاتية، الذين باعدوا طريقة الجمهور منهم فضلاً عن مقدميهم، وعلى بعض مقتصدة المعتزلة.
وقوله: (أو كلها) كما هو الأصل في مذهب أئمة المعتزلة الأوائل؛ كـ إبراهيم بن سيار النظام، وأبي الهذيل العلاف، وأمثال هؤلاء، فضلاً عن جهم بن صفوان ونحوه من متقدمي الجهمية الأولى.
وقوله: (أنها تماثل صفات المخلوقين) بمعنى: أن من عطل صفة أو تأولها، فإن ذلك لكونه ظن أن إثبات هذه الصفات يكون من باب التشبيه والتمثيل، وبهذا يُعلم أن الأصل في طريقة هؤلاء أنهم فروا من التشبيه -وإن كانوا لم يحققوا الحق في هذا الباب- لكنهم غلطوا في تقرير هذا الباب بمثل هذه الطرق التي أحدثوها.
والمصنف هنا يريد أن يصل إلى أن كل من تأول شيئاً من الصفات فإنه ممثل، وكما يقال: إن أهل السنة وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه والتمثيل، فإن المصنف ينتهي إلى أن ثمة تلازماً ذهنياً تصورياً بين التعطيل وبين التمثيل والتشبيه، بمعنى: أنه ما عطل معطل -بما يسمى تأويلاً عند أصحابه- إلا وقد توهم أن الإثبات يستلزم التمثيل، فقام التمثيل في ظنه، فذهب ينفيه بما سماه تأويلاً.
وقوله: (فيقع في أربعة أنواع من المحاذير) وهي ما سيذكرها هنا.