قال المصنف رحمه الله: [ومما يشبه هذا القول أن يجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فقيل: هو مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس:71]].
فهنا ثلاثة سياقات: فقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] أي: بقوة، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] هذا فيه إثبات صفة اليدين، ومعنى ذلك: أن الله خلق آدم بيديه على الحقيقة، على ما يليق بجلاله، من الفعل الذي لا نعلم كيفيته.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس:71] أي: مما عملنا.
وهذا التفسير ليس من باب التضاد؛ بل إنه من باب التنوع الذي جميعه لائق بالله تعالى، وقد فسرت هذه الآيات بهذه الأوجه من باب اعتبار السياق.
قال رحمه الله: [فهذا ليس مثل هذا؛ لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهاً بقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] وهناك أضاف الفعل إليه فقال: (لما خلقت)، ثم قال: (بيدي)، وأيضاً فإنه هناك ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وهنا أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]].
وهذا تفريق من المصنف من جهة السياق، فإن هذا سياق مضاف، وهذا سياق مفرد، وهذا سياق جمع ..
وغير ذلك.
قال رحمه الله: [وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] في المفرد، فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع، كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] وأمثال ذلك، ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك].
من المعلوم أن الله إذا ذكر نفسه فإما أن يكون بصيغة المفرد، وإما أن يكون بصيغة الجمع، أما صيغة التثنية فإن هذا لم يقع إلا فيما هو من صفاته سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ولم يقل: لما خلقت أيدينا، ونحوه.
وقوله: (وربما تدل على معاني أسمائه):
هذا من جهة أن صيغة الجمع إذا ذكرت دلت من جهة سياقها على جملة من معاني أسماء الرب سبحانه وتعالى، فقد سبق أن الاسم من أسماء الرب، أو الفعل من أفعاله سبحانه وتعالى يكون دالاً على جملة من المعاني، كالسميع؛ فإنه يدل على صفة السمع، ويدل على إثبات صفة العلم، ويدل على إثبات صفة البصر؛ لأن من اتصف بالسمع لزم أن يتصف بنظيره وهو البصر، ولزم أن يكون متصفاً بالحياة؛ لأنه لا يكون سميعاً إلا إذا كان حياً .. وهلم جرا.
فالاسم الواحد يقتضي إثبات جملة من كمالات الرب سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: [فلو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت يدي، كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] وهو نظير قوله: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، و (بِيَدِكَ الْخَيْرُ)، ولو قال: خلقت بيدي، بصيغة الإفراد؛ لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) بصيغة التثنية].
وهذا صريح في أن هذا فيه ذكر لصفة اليدين، ولهذا جاء بصيغة التثنية المضافة، ولا يوجد في كلام العرب أنهم يجوزون تأويل مثل هذا السياق على معنى النعمة أو القوة، أو غير ذلك.
قال رحمه الله: [هذا مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة، وإجماع سلف الأمة على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، وأمثال ذلك].
أي أن هذا السياق في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ليس سياقاً واحداً في القرآن؛ بل له نظائر في كلام الله وكلام رسوله، وقد أجمع سلف الأمة على هذا المعنى، وعلى هذا الإثبات لصفة اليدين.
وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.