الوجه الثاني: أن كل موجود يقبل الاتصاف بهذه الصفات وما يقابلها

قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً: فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حياً، كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الجبال والعصي].

هذا هو الوجه الثاني في الرد، وهو رد عقلي، يقول فيه المصنف: إنكم تقولون: إن ثمة من الموجودات ما لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات, كالجمادات، فإنها لا توصف بالسمع ولا بالبصر، وليست قابلة لها، فلو سلمنا أنها لا توصف بذلك في كلام العرب، فهل عدم قبولها لها يدل على أن هذه الصفات ممتنعة عليها، أم أن هذه الصفات ممكنة في حقها؟

يقول المصنف: إن كل مخلوق يمكن أن تقوم به صفة من الصفات، ولا يلزم من هذا القيام أن تنقلب حقيقته, وضرب لذلك مثلاً بعصا موسى، وهذا مثال صحيح، ولكن لو مثل بمثال أقرب إلى التحقيق العقلي لهذا الرد لكان أولى، وهو أن يقال: لقد ثبت في الصحيح من حديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث)، فهل انقلب هذا الحجر وقت السلام على النبي صلى الله عليه وسلم -كما انقلبت عصا موسى- إلى شخص يسلم ثم يرجعه الله حجراً، أم أنه يصدر هذا الصوت وهو على حجريته؟

الجواب: أنه يصدر هذا الصوت وهو على حجريته.

والله تعالى يقول عن السماوات والأرض: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] فما هو هذا التسبيح؟ هل هو شيء مدرك أم غير مدرك؟

لو كان ظاهراً لنا كسير السحاب مثلاً، وثبوت الجبال، وما إلى ذلك؛ لكان شيئاً مدركاً.

فيقال إذاً: إن الله وصفها بصفة لا ندركها، مما يدل على أن هذه الصفة تقوم بها، وأنها تسبح تسبيحاً خارجاً عن ظواهرها؛ كحركة السحاب وثبوت الجبال، ولذلك قال سبحانه: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] مما يدل على أن هذه الصفات ممكنة في حق الجمادات؛ بل إن التحقيق: أن هذه الجمادات التي تسمى جمادات وهي متحركة حركة تناسبها، أو قائمة قياماً يناسبها, أنها تقوم بها صفات، ومن الصفات التي تقوم بها -ولا تزال قائمة بها قياماً حقيقياً لا يقبل الإدراك- تسبيحها, فإن الله تعالى قال ولم يستثن شيئاً: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44].

إذاً: قول المتكلمين وغيرهم: إن هذه ليست قابلة، ليس بصحيح؛ بل هي قابلة، بل إنها تقوم بها بعض الصفات، وإذا قامت بها صفة واحدة وهي أنها تسبح لله، فإن هذا يكفي حتى نحكم عليها أنها من القوابل.

فتكون النتيجة: أن سائر المخلوقات من باب القوابل، إما قوابل حقيقة قائمة، وإما قوابل من جهة إمكانها.

ولو قال قائل: إن كل المخلوقات قابلة لصفات ما يخلقها الله سبحانه وتعالى فيها قيام قبول على الحقيقة، لم يكن بعيداً؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] والتسبيح هو صفة لا بد أن يكون عن قيام صفة تنتج هذه الصفة الثانية، فإن الصفة الأولى هي فرع عن صفة سابقة لها، والفعل يتسلسل إلى فعل آخر ..

وهكذا.

فالمصنف يريد أن يصل إلى أنه لا يوجد في الموجودات إلا شيء تكون الصفات قائمة به، أو يقبل قيام الصفات به.

وأنتم تقولون -أي: المخالفون- إن الإله ليس قابلاً، أي: تمتنع عليه الصفات، فيقول: إنه يمتنع أن يكون هناك شيء موجود ويقال فيه: إنه تمتنع عليه الصفات؛ بل لا بد من ثبوت الصفات، إما ثبوت تحقق، وإما ثبوت إمكان.

فإذا استقرت هذه القاعدة، وهي أن كل موجود إما أن يكون موصوفاً بالصفات، أو قابلاً لها؛ فإن ما كان في حق الله سبحانه وتعالى فإنه من باب الواجب؛ لأن ما أمكن له وجب، ولذلك فإن صفات الكمال صفات واجبة له، وإذا كانت الأشياء الممكنة تقبل هذه الصفات، فكيف بواجب الوجود، الذي لا معنى لوجوب وجوده إلا أنه متصف بربوبيته سبحانه وتعالى، وأنه الخالق وما سواه مخلوق، وأنه موصوف بالكمال، وأنه المعبود بحق، وما إلى ذلك من الصفات، وهذا هو معنى التوحيد.

وهذا وجه شريف وقوي من جهة الدليل العقلي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015