ومما ينبه إليه: أنه إذا وجد في كتب المقالات -كالملل والنحل للشهرستاني، أو الفصل لـ ابن حزم، أو المقالات للأشعري، أو حتى في كلام شيخ الإسلام رحمه الله وغيره- إذا وجد أن هذا يستعمله كذا وكذا من طوائف الباطنية، ووُجد أن بعض الناس في بعض البيئات يضافون إلى طائفة من هذه الطوائف؛ فلا يلزم أن هذا السواد من العامة يقرون بهذه الحقائق الخاصة من المذهب، أو أنهم عارفون أو مدركون أو آخذون بهذه الحقائق الخاصة من المذهب؛ وذلك لأن المذهب الباطني يقوم على مسألة: الخاصة والعامة، وأن الظاهر يعطى للخاصة، والباطن سرٌ مكتوم لا يصل إليه إلا المتدرج في التسلسل المعروف عندهم.
وهذا يفيد في مسألة إطلاق الأحكام، فإذا نسب لطائفة أن لها حقائق معينة بعيدة عن الشريعة الإسلامية، فلا يلزم أن كل من انتسب إلى هذه الطائفة يدان بكل هذه الحقائق، مع أن مجرد انتسابه إلى هذه الطائفة، وتعظيمه لها ولشيوخها، يصيبه بقدر من البدعة والضلالة، وهذا لا جدال فيه، إنما الذي يراد تقييده: أن انتساب أحد إلى طائفة معينة قد يكون انتساباً من حيث اللفظ العام، ومن حيث الكليات العامة التي يتداولها عامتهم، ولا يلزم أن يكون ملتزماً بتلك الدقائق التي يرى أئمتهم كتمانها عن العامة، فإذا كانوا يقررون في كتبهم أنها سر مكتوم عن العامة، فلا يجوز أن يُحكم على العامة بها وهم لم يصرحوا بالتدين أو الأخذ بها.
فهذا باب يجب فيه الإدراك؛ لأن بعض الناس قد يقول: إن عوام الطائفة الفلانية -مثلاً- كفار خارجون من الملة ..
لماذا؟ قال: لأنهم من هذه الطائفة، وهذه الطائفة من عقائدها كذا وكذا.
وهنا لا بد أن يتأكد هل هذه العقائد فعلاً موجودة عند العامة، أم أنها سطرت في كتب وأضيفت إلى قوم من غلاتهم أو قوم من خاصتهم؟ فإنه لا يحكم على معين بكفر إلا بعد أن يعلم أن هذا الكفر الذي نسب إلى طائفته موجود عنده، وهو عارف به، وإلا فقد يوجد عند بعض أئمتهم من الغلو ما لا يعرفه هؤلاء العامة، فلا يدان العامة بحكم هذا الرجل.
قال المصنف رحمه الله: [وقد يقولون: إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم، رفعوا عنه الواجبات، وأباحوا له المحظورات].
يبين المصنف رحمه الله أن الباطنية إذا وصل الرجل عندهم إلى مرحلة معينة، وصار من عارفيهم ومحققيهم، كشفوا له الباطن، وهذه إشارة من المصنف إلى أن هؤلاء لا يكشفون هذا الباطن في تفسيرهم للشرائع أو ما إلى ذلك للعامة، وعليه فلا يحكم على العامة بهذا الحكم من هذا الوجه، وإن كان لك أن تحكم على العامة بحكم أنهم ينتسبون لبدعة، وأنهم يقولون بكذا، فهذه أحكام أخرى.
قال رحمه الله: [وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخلُ في بعض هذه المذاهب.
وهؤلاء الباطنية الملاحدة أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى].
قوله: (وقد يوجد ...) أي: يوجد في بعض المتصوفة الغلاة قوم يميلون إلى بعض الباطنية.
فمثلاً: ابن عربي، المعروف أنه صوفي، ويأتي في درجات الصوفية المتقدمة في الغلو، لكن هناك كثير من المسلمين يعظمون ابن عربي، سواء ممن تصوف على طريقته -طريقة وحدة الوجود- أو ممن كان متصوفاً وليس على طريقته، فهل يلزم أن من يعظم شأن ابن عربي، أو من يدافع عنه أو ينتصر له أو يثني عليه، هل يلزم بالضرورة أن يكون مداناً بالحقائق المفصلة التي يقول بها ابن عربي؟
الجواب: لا.
فهذه مسائل لا بد من إدراكها، فمن يقول: أنا على طريقة ابن عربي، لكنه لا يعرف ما هي طريقة ابن عربي، فلا يلزم أن تقول: ما دام أنه ينتسب إلى ابن عربي إذاً يحكم عليه بحكمه، ولذلك فإن بعض أهل العلم الفضلاء ما تجرأ على الكلام في ابن عربي؛ لأنه كان مشتغلاً بعلم الحديث والرواية والرجال، ولما سئل عن ابن عربي رأى أن في كلامه بعض الرمز وبعض الإشارة التي لا يلزم الجزم بظاهرها؛ بل إن ابن تيمية رحمه الله ذكر في كلام له في فتاواه: أنه كان في أول طلبه وفي أول إقدامه وسلوكه قال: "كنت أجتمع أنا وإخوة لي نقرأ في كلام ابن عربي في الفتوحات المكية، وكنا نرى في بعض كلامه خيراً وكلاماً حسناً مفيداً في مسائل السلوك"، فالرجل له أحياناً كلام مفيد وصحيح، فهل هذا الكلام الصحيح هو الذي يمثل ابن عربي؟ لا.
كما أن الكلام الغلط الذي عند ابن عربي لا يجوز أن ينسب إلى كل من أخذ بشيء من تعظيمه أو ما إلى ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [وما يحتج به أهل الإيمان والإثبات على هؤلاء الملاحدة، يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات، كما دل على ذلك الآيات البينات، كان ذلك هو الحق الذي يوافق المنقول والمعقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات].
يقول المصنف: إن المتكلمين يعارضون المتفلسفة في مسألة اليوم الآخر، ويطالبون المتفلسفة بإثباته على التحقيق، يقول: فهذا مما يمكن أن يقلب عليهم، فإن المتفلسف يمكن أن يقول لهم: وأنتم قد تأولتم باب الصفات!!