قال المصنف رحمه الله: [ثم إنه متناقض، فإنه إن جوز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحداً بالعين لا بالنوع].
فإذا فرض أن الوجود واحد بالعين لا بالنوع، فإنه يمتنع فيه تعدد الحقائق، ومعنى ذلك: أن العقليات في سائر مواردها تكون ساقطةً، وهذا إفساد مطلق للعقل، وهذا المذهب -وهو أن الوجود واحد بالعين- أشد الدرجات امتناعاً، ولا أحد يلتزم به، حتى أهل وحدة الوجود، فإن مذهبهم درجة فوق هذه الدرجة من الإمكان، ولم يلتزم به حتى النظار من المتفلسفة الأوائل؛ لأن هذا المذهب يتعذر ويمتنع أن يفرض بأدنى طرق العقل، فهو مذهب تام الانغلاق، ويستلزم إسقاط الكليات العقلية فضلاً عن مفصلاتها، بمعنى: أنه هدم مطلق للعقل.
فما دام أنه كذلك، ولا يقول به أحد، فلماذا استعمله المصنف هنا؟
استعمله من باب أنه لازم لهؤلاء، فإنه يقول: إذا قلتم: إن تعدد الصفات يكون تركيباً، فما هو المخرج من ذلك؟ يقول المصنف: إنه ليس هناك مخرج ممكن إلا أن يكون الوجود واحداً بالعين.
بمعنى: أنهم إذا قالوا: إن العلم والسمع والبصر تستلزم التركيب، فالمخرج يكون بالنفي، فيلزم من ذلك أنه ما من معنىً يفرض إلا ويرد عليه هذا الإشكال، حتى المعاني التي يفرضونها هم بفلسفتهم، وهذا لا مخرج منه إلا أن يقولوا: العلم عين العالم، والقدرة عين العلم
ونحو ذلك، فيجعلون الصفة هي الأخرى، والصفة هي الموصوف.
ولا يمكن عقلاً أن تكون الصفة هي الأخرى، أو الصفة هي الموصوف، إلا إذا جوز العقل أن الوجود واحد بالعين ..
وهذا لا يمكن فرضه في العقل، فضلاً عن أن يكون متصوراً في العقل؛ بل إنه من أعظم الممتنعات؛ أن يكون الوجود واحداً بالعين، فضلاً عن أن يكون مما يمكن للعقل أن يتصوره.
قال المصنف رحمه الله: [وحينئذ فإذا كان الوجود الممكن هو وجود الواجب، كان وجود كل مخلوق -يُعدم بعد وجوده، ويوجد بعد عدمه- هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي، الذي لا يقبل العدم].
قد يقول قائل: لماذا قال المصنف: إن كون الوجود واحداً بالعين من أشد الممتنعات عقلاً؟
والجواب: لأنه يقود إلى حقائق ظاهرة الامتناع، من أوائلها: أنه لا فرق بين الوجود الممكن والوجود الواجب، ولذلك قال المصنف: (وحينئذ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب، كان وجود المخلوق هو وجود الخالق بالعين)؛ ولذلك فإن القائلين بوحدة الوجود يخرجون من هذا بمخرج لا ينجيهم، لكنهم لا يلتزمون إلى هذه الدرجة أن الوجود واحد بالعين.
بل إن هذا المذهب يستلزم تعطيل الوجود، فإن المصنف يقول: إن هذا يستلزم أن يكون الوجود واحداً، لا فرق بين وجود الممكن ووجود الواجب.
ويقال بعد ذلك: بل يلزم منه ما هو فوق ذلك، وهو أنه يقود إلى تعطيل الوجود مطلقاً؛ لأنه ما من معنىً يعين به الوجود بالعين إلا ويمكن أن يعين يغيره، وهذا الغير متسلسل إلى غير نهاية؛ لأنه ما من معنىً تفرضه أنه هو الموجود بالعين، إلا ويمكن أن يفرض غيره، وهذا يستلزم تعطيل الوجود.
إذاً: هذه النتيجة إن التزموها؛ لزم من ذلك ألا يقع تفريق بين وجود الخالق ووجود المخلوق؛ بل لزم من ذلك التعطيل للوجود نفسه.