ومما ينبه إليه: أن مذهب المعطلة من أئمة المتكلمين، كأئمة الجهمية الأولى كـ جهم بن صفوان ونحوه، أو المتفلسفة كـ ابن سينا -هذا المذهب مبني على الفلسفة، كما يصرح بذلك ابن سينا، أو على علم الكلام الذي هو مولد في جملته وجوهره من الفلسفة.
ومما ينبه إليه: أن مذهب المشبهة الذين شبهوا الله سبحانه وتعالى بخلقه، وأثبتوا له من الصفات على وجه يقتضي التشبيه بما هو من مخلوقاته، هذا المذهب الذي استعمله المشبهة كـ هشام بن الحكم ونحوه، ثم جاء بعدهم قوم دونهم في مقالة التشبيه كـ محمد بن كرام السجستاني وأتباعه؛ هؤلاء أيضاً قولهم في التشبيه مبني على علم الكلام، وبهذا يُعلم أن علم الكلام الذي ذمه الأئمة من الفقهاء والمحدثين الذي هو علم مولد من الفلسفة، ومركب في جمهور أمره منها، وإن كانت فيه مقاصد مجملة من الشريعة، أو مقاصد كلية من العقل -هو الذي أوجب مقالة النفي والتعطيل، ومقالة التشبيه والتمثيل، ولا يظن أحد أن مقالة المشبهة أو المجسمة -كـ محمد بن كرام وأتباعه- لم تكن على أصول علم الكلام؛ بل إن محمد بن كرام كان من المتكلمين؛ بل كان من علماء الكلام المشهورين.
ومما يدعو إلى العجب: أن الدليل الذي به نفت المعتزلة الصفات، وبه نفى متكلمة الصفاتيه صفات الفعل، وبه أثبت محمد بن كرام التجسيم -الدليل عند هؤلاء وهؤلاء من المتكلمين دليل واحد، وهو ما يسمونه: (دليل الأعراض)، فإن الأدلة العقلية التي بنى عليها المنحرفون في صفات الله سبحانه وتعالى عن منهج الصحابة، وسموها أدلة عقلية، هي ثلاثة أدلة في الجملة، وهي الأدلة الكبرى الكلية، وهي:
1 - دليل الأعراض، وهو الدليل الذي غلب على طوائف المتكلمين من المجسمة أو النفاة.
2 - دليل التركيب، وهو الذي يستعمله ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة.
3 - دليل التخصيص، وهو الذي اشتغل به المتأخرون من متكلمة الصفاتية كـ أبي المعالي الجويني وغيره.
فدليل الأعراض، وهو الذي غلب على المتكلمين من مجسم أو معطل، أو دون ذلك، هو دليل واحد، ولكنهم اختلفوا في الالتزام بنتائجه، وفي ترتيب بعض مقدماته.
إذاً: مما سبق يعلم أن علم الكلام هو الموجب لمقالة التعطيل، وهو الموجب لمقالة التشبيه، وأن منهج الحق، وهو المنهج الشرعي الذي عليه جمهور المسملين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي درج عليه الصحابة وجمهور الأمة المحمدية المسلمة، وهو أن الله موصوف بالكمال، كما وصف نفسه في القرآن، ومنزه عن النقص والتشبيه كما نزه نفسه في القرآن، ولابد أن يقتدى بسياق القرآن وحروفه ومعانيه، ولا تفرغ الحروف والكلمات القرآنية والنبوية عن معانيها، فإن هذا هو مذهب التفويض الذي ذمّه جمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم.