والأدب في موضعين، وفي الإيمان والعلم والأحكام والمغازي وخبر الواحد والاستئذان، وأخرجه مسلم في المغازي، وأبو داود في الأدب، والترمذي في الاستئذان، والنسائي في التفسير. ولم يخرجه ابن ماجة ووجه مناسبة ذكر هذا الحديث في هذا الباب أنه مشتمل على ذكر جمل من أوصاف من يوحى إليه، والباب في كيفية بدء الوحي، وأيضًا فإنّ قصة هرقل متضمنة كيفية حاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ابتداء الأمر.
ولما فرغ المؤلف من باب الوحي الذي هو كالمقدمة لهذا الكتاب الجامع شرع يذكر المقاصد الدينية وبدأ منها بالإيمان لأنه ملاك الأمر كله، لأن الباقي مبنيّ عليه ومشروط به وهو أوّل واجب على المكلف فقال مبتدئًا: (بسم الله الرحمن الرحيم) كأكثر كتب هذا الجامع تبركًا وزيادة في الاعتناء بالتمسك بالسُّنَّة، واختلفت الروايات في تقديمها هنا على كتاب أو تأخيرها عنه، ولكلٍّ وجه ووجه الثاني بأنه جعل الترجمة قائمة مقام تسمية السورة ووجه الأوّل ظاهر.
بسم الله الرحمن الرحيم
بكسر الهمزة وهو لغة التصديق، وهو كما قاله التفتازاني إذعان لحكم المخبر وقبوله وجعله صادقًا، إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به أمنه التكذيب والمخالفة، يعدّى باللام كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، أي مصدق لنا، وبالباء كما في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الإيمان أن تؤمن بالله". الحديث. فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو الخبر من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرَّح به الإمام الغزالي. والكتاب من الكتب وهو الجمع والضم، ومن ثم استعمل جامعًا للأبواب والفصول الجامعة للمسائل، والضم فيه بالنسبة إلى الحروف المكتوبة حقيقة، وبالنسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز. ولم يقل في الأول كتاب بدء الوحي لأنه كالمقدمة، ومن ثم بدأ به لأن من شأن المقدمة كونها أمام المراد، وأيضًا فإن من الوحي عرف الإيمان وغيره.
وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} - {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} - {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} - {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} - {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وَقَوْلُهُ: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}. وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ إِنَّ لِلإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ.
فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. وَقَالَ مُعَاذٌ اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {شَرَعَ لَكُمْ ... } أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}: سَبِيلاً وَسُنَّةً.
هذا (باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الحديث الموصول الآتي تامًّا إن شاء الله تعالى.
(بُنيّ الإسلام على خمس). وفي فرع اليونينية كهي، كتاب الإيمان، وقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي أخرى باب الإيمان وقول النبي، والأول أصح لأن ذكر الإيمان بعد ذكر كتاب الإيمان لا طائل تحته كما لا يخفى، وسقط لفظ باب عند الأصيلي. والإسلام لغة الانقياد والخضوع، ولا يتحقق ذلك إلا بقبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق كما سبق، قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين} [الذاريات: 35، 36] فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا فهما متحدان في الصدق وإن تغايرا بحسب المفهوم، إذ مفهوم الإيمان تصديق القلب، ومفهوم الإسلام أعمال الجوارح، وبالجملة لا يصح في الشرع أن يحكم على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا. ومن أثبت التغاير فقد يقال له ما حكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن، فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر فقد ظهر بطلان قوله، فإن قيل قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. صريح في تحقيق الإسلام بدون الإيمان. أجيب بأن المراد أنهم انقادوا في الظاهر اهـ.
(وهو) أي الإيمان المبوَّب عليه عند المصنف كابن عيينة والثوري وابن جريح ومجاهد ومالك بن أنس وغيرهم من سلف الأمة وخنفها من المتكلمين والمحدثين: (قول) باللسان وهو النطق بالشهادتين. (وفعل)، ولأبي ذر عن الكشميهني وعمل بدل فعل، وهو أعمّ من عمل القلب والجوارح، لتدخل الاعتقادات والعبادات. وهو موافق لقول السلف اعتقاد بالقلب