من، في قوله: ومن فيهن، دون: ما، تغليبًا للعقلاء على غيرهم.

(ولك الحمد، لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، نور السماوات والأرض) ولأبوي ذر، والوقت، والأصيلي، وابن عساكر: "ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض" بزيادة: أنت، المقدرة في الرواية الأولى، فيكون قوله فيها: نور: خبر مبتدأ محذوف، وإضافة النور إلى السماوات والأرض للدلالة على سعة إشراقه، وفشوّ إضاءته وعلى هذا فسر قوله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ} أي منوّرهما يعني: أن كل شيء استنار منهما واستضاء. فبقدرتك وجودك، والأجرام النيرة بدائع فطرتك، والعقل والحواس خلقك وعطيتك.

قيل: وسمي بالنور لما اختص به من إشراق الجلال، وسبحات العظمة التي تضمحل الأنوار دونها، ولما هيأ للعالم من النور ليهتدوا به في عالم الخلق. فهذا الاسم على هذا المعنى لا استحقاق لغيره فيه، بل هو المستحق له المدعوّ به {وللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وزاد في رواية أبوي ذر، والوقت، والأصيلي: ومن فيهن.

({ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض}) كذا للحموي، والمستملي، وفي رواية الكشميهني: لك ملك السماوات والأرض، والأوّل أشبه بالسياق، (ولك الحمد، أنت الحق) المتحقق وجوده.

وكل شيء ثبت وجوده وتحقق فهو حق، وهذا الوصف للرب جل جلاله بالحقيقة والخصوصية لا ينبغي لغيره، إذ وجوده بذاته لم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم، ومن عداه ممن يقال فيه ذلك فهو بخلافه.

(ووعدك الحق) الثابت المتحقق، فلا يدخله خلف ولا شك في وقوعه، وتحققه، (ولقاؤك حق) أي: رؤيتك في الدار الآخرة حيث لا مانع، أو لقاء جزائك لأهل السعادة والشقاوة.

وهو داخل فيما قبله. فهو من عطف الخاص على العام، وقيل: ولقاؤك حق، أي: الموت، وأبطله النووي.

(وقولك حق) أي: مدلوله ثابت (والجنة حق، والنار حق) أي كل منهما موجود (والنبيون حق، ومحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حق، والساعة حق،) أي: يوم القيامة.

وأصل الساعة الجزء القليل من اليوم أو الليلة، ثم استعير للوقت الذي تقام فيه القيامة، يريد فيه القيامة، يريد أنها ساعة خفيفة، يحدث فيها أمر عظيم.

وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه، وليناط به كل مرة معنى آخر، وفي تقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص، وكأنه عليه الصلاة والسلام، لما خص الحمد بالله، قيل: لم خصصتني بالحمد؟ قال: لأنك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.

فإن قلت: لم عرّف الحق في قوله: أنت الحق، ووعدك الحق، ونكر في البواقي؟

قال الطيبي عرفها للحصر، لأن الله هو الحق الثابت الدائم الباقي، وما سواه في معرض الزوال، قال لبيد:

ألاَ كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره.

وقال السهيلي: التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة، إذ هو مقتضى هذه الأداة.

وكذا: في وعدك الحق، لأن وعده كلامه، وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة، والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته، وبقاء ما يدوم منه علم بالخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه.

وتعقبه في المصابيح بأنه يرد عليه قوله في هذا الحديث: وقولك حق، مع أن قوله كلامه القديم فينظر وجهه. اهـ.

قال الطيبي: وهاهنا سر دقيق، وهو: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما نظر إلى المقام الإلهي، ومقربي حضرة الربوبية، عظم شأنه، وفخم منزلته، حيث ذكر النبيين. وعرفها باللام الاستغراقي، ثم خص محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، من بينهم، وعطفه عليهم، إيذانًا بالتغاير، وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به، فإن تغير الوصف بمنزلة التغير في الذات.

ثم حكم عليه استقلالاً بأنه حق، وجرده عن ذاته كأنه غيره، وأوجب عليه تصديقه.

ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه، نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار:

(اللهم لك أسلمت) أي انقدت لأمرك ونهيك (وبك آمنت) أي: صدقت بك وبما أنزلت (وعليك توكلت) أي: فوّضت أمري إليك (وإليك أنبت): رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك (وبك) أي: بما آتيتني من البراهين والحجج (خاصمت) من خاصمني من الكفار، أو بتأييدك ونصرتك قاتلت (وإليك حاكمت) كل من أبى قبول ما أرسلتني به.

وقدم جميع صلاة هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص، وإفادة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015