وظاهر هذا السياق صادق بأن تسجد الطائفة الأولى معه في الركعة الأولى، والثانية في الثانية، وعكسه بأن تسجد الثانية معه في الأولى، والأولى في الثانية، مع تحول كل منهما إلى مكان الأخرى كما مرّ، فتكون صفتين.
والذي في مسلم، وأبي داود: هو الصفة الأولى مع التحوّل أيضًا، ولفظ رواية أبي داود، عن أبي عياش الزرقيّ، قال: صلينا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العصر بعسفان، فقام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والمشركون أمامه، واصطفوا صفًّا خلفه، وخلف الصف صف آخر، فركع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وركعوا جميعًا ثم سجد الصف الذي يليه وقام الآخر يحرسونهم، فلما قضى بهم السجدتين وقاموا، سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدّم الآخرون إلى مقام الأوّلين، ثم ركع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وركعوا جميعًا، ثم سجد فسجد الصف الذي يليه. وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سجد الآخرون وجلسوا جميعًا، فسلم بهم. ولمسلم نحوه.
وهذا السياق مغاير لحديث الباب، فإن فيه: أن الصفين ركعوا معه، عليه الصلاة والسلام، وسجدت معه الأولى وقامت الأخرى من الركوع تحرس، ثم سجدت الحارسة بعد فراغ أولئك.
وفي حديث الباب أنه ركع طائفة منهم وسجدوا معه، ثم جاءت الطائفة الأخرى كذلك، ولم يقع في رواية الزهري هذه: هل أكملوا الركعة الثانية أم لا.
نعم، زاد النسائي في رواية له، من طريق أبي بكر بن أبي الجهم، عن شيخه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فزاد في آخره: ولم يقضوا. وهذا كالصريح في اقتصارهم على ركعة ركعة.
ولمسلم، وأبي داود، والنسائي، من طريق مجاهد عن ابن عباس، قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم، في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. لكن الجمهور على أن قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد، وتأوّلوا رواية مجاهد هذه على أن المراد ركعة مع الإمام، وليس فيه نفي الثانية.
ورواة حديث الباب ثلاثة حمصيون، واثنان مدنيان. وفيه التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه النسائي في الصلاة.
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ لاَ يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ. وَقَالَ أَنَسٌ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ -وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ- فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى
الصَّلاَةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلاَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى، فَفُتِحَ لَنَا. وَقَالَ أَنَسٌ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (باب الصلاة عند مناهضة الحصون) أي إمكان فتحها وغلبة الظن على القدرة عليها (و) الصلاة عند (لقاء العدوّ).
(وقال) عبد الرحمن (الأوزاعي)، فيما ذكره الوليد بن مسلم في كتاب السير: (إذ كان تهيأ الفتح) بمثناة فوقية فهاء فمثناة تحتية مشدّدة فهمزة مفتوحات، أي: اتفق وتمكن. وللقابسي، فيما حكاه في الفتح وغيره: إن كان بها الفتح، بموحدة. وهاء: بضمير، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهو تصحيف، (و) الحال أنهم (لم يقدروا على) إتمام (الصلاة) أركانًا وأفعالاً (صلوا إيماءً) أي مومئين (كل امرئ) شخص يصلّي (لنفسه) بالإيماء منفردًا، (فإن لم يقدروا على الإيماء) بسبب اشتغال الجوارح، لأن الحرب إذا بلغ الغاية في الشدة تعذر الإيماء على القاتل لاشتغال قلبه وجوارحه عند القتال (أخروا الصلاة خى ينكشف القتال، أو يأمنوا، فيصلوا ركعتين).
استشكل كونه جعل الإيماء مشروطًا بتعذر القدرة، والتأخير مشروطًا بتعذر الإيماء، وجعل غاية التأخير انكشاف القتال ثم قال: أو يأمنوا فيصلوا ركعتين ... فجعل الأمن قسيم الانكشاف، وبالانكشاف يحصل الأمن، فكيف يكون قسيمه؟.
وأجيب: بأن الانكشاف قد يحصل، ولا يحصل الأمن لخوف المعاودة، كما أن الأمن قد يحصل بزيادة القوّة واتصال المدد بغير انكشاف، فعلى هذا فالأمن قسيم الانكشاف أيهما حصل اقتضى صلاة ركعتين.
(فإن لم يقدروا) على صلاة ركعتين، بالفعل أو بالإيماء (صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا) أي على صلاة وسجدتين (لا يجزيهم)، ولغير الأربعة: وسجدتين لا يجزيهم، ولأبي ذر: فلا يجزيهم (التكبير) خلافًا لمن قال: إذا التقى الزحفان وحضرت الصلاة يجزيهم التكبير عن الصلاة بلا إعادة.
(ويؤخرونها) أي: الصلاة، ولغير أبي ذر: يؤخروها (حتى يأمنوا) أي: حتى يحصل لهم الأمن التام.
واحتج الأوزاعي، كما قال ابن