وجوب الجلوس بين الخطبتين لمواظبته عليه الصلاة والسلام على ذلك، مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وتعقبه ابن دقيق العيد بأن ذلك يتوقف على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخلة تحت كيفية الصلاة، وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل. انتهى. فهو أصل لا يتناول الخطبة، لأنها ليست بصلاة حقيقة.
وعورض أيضًا الاستدلال للوجوب بمواظبته عليه، بأنه عليه الصلاة والسلام قد واظب على الجلوس قبل الخطبة الأولى، فإن كانت مواظبته دليلاً على شرطية الجلسة بينهما، فلتكن دليلاً على شرطية الجلسة الأولى.
وأجيب: بأن كل الروايات عن ابن عمر ليس فيها هذه الجلسة الأولى. وهي من رواية عبد الله بن عمر المضعف، فلم تثبت المواظبة عليها بخلاف التي بين الخطبتين.
ولم يشترط الحنفية والمالكية والحنابلة هذه القعدة، إنما قالوا بسنيتها للفصل بين الخطبتين.
نعم، نقل الحافظ العراقي في شرح الترمذي اشتراطها عن مشهور مذهب أحمد، وقال المازري، من المالكية: يشترط القيام لهما والجلوس بينهما. وقال القاضي أبو بكر: القيام والجلوس واجبان، وهو يرد على الطحاوي حيث زعم أن الشافعي تفرّد بالاشتراط.
لكن الذي شهره الشيخ خليل السنيّة، وكذا مشهر مذهب الحنابلة علاي الدين المرداوي في تنقيح المقنع، والله أعلم.
ويستحب أن يكون جلوسه بينهما قدر سورة الإخلاص تقريبًا، لاتباع السلف والخلف، وأن يقرأ فيه شيئًا من كتاب الله للاتباع، رواه ابن حبّان.
(باب الاستماع) أي، الإصغاء (إلى الخطبة) يوم الجمعة.
929 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ. وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً. فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ». [الحديث 929 - طرفه في: 3211].
وبالسند، قال: (حدّثنا آدم) بن أبي أياس (قال: حدّثنا ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن (عن) ابن شهاب (الزهري، عن أبي عبد الله) سلمان الجهني، مولاهم، (الأغرّ) لقبًا، الأصبهاني أصلاً، المدني (عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأوّل فالأوّل) قال في المصابيح: نصب على الحال، وجاءت معرفة وهو قليل (ومثل المهجر) بضم الميم وتشديد الجيم المكسورة أي، وصفة المبكر، أو المراد: الذي يأتي في الهاجرة، فيكون دليلاً للمالكية، وسبق البحث فيه، (كمثل الذي يهدي) بضم أوله وكسر ثالثه أي: يقرّب، وللأصيلي: كالذي يهدي (بدنة) من الإبل، خبر عن
قوله مثل الهجر، والكاف لتشبيه صفة بصفة أخرى (ثم) الثاني (كالذي يهدي بقرة، ثم) الثالث كالذي يهدي (كبشًا، ثم) الرابع كالذي يهدي (دجاجة، ثم) الخامس كالذي يهدي (بيضة).
إنما قدرنا بالثاني لأنه كما قال في المصابيح: لا يصح العطف على الخبر لئلا يقعا معًا خبرًا عن واحد، وهو مستحيل، وحينئذ فهو خبر مبتدأ محذوف مقدّر بما مر، وكذا قوله: ثم كبشًا، لا يكون معطوفًا على بقرة، لأن المعنى يأباه، بل هو معمول فعل محذوف دلّ عليه التقدم، والتقدير كما مر، ثم الثالث: كالذي يهدي كبشًا، وكذا ما بعده.
(فإذا خرج الإمام طوَوْا) أي الملائكة، (صحفهم) التي كتبوا فيها درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة، (ويستمعون الذكر) أي الخطبة.
وأتى بصيغة المضارع لاستحضار صورة الحال اعتناءً بهذه المرتبة، وحملاً على الاقتداء بالملائكة. وهذا موضع الاستشهاد على الترجمة.
قال التيمي: في استماع الملائكة حضّ على استماعها والإنصات إليها. وقد ذكر كثير من المفسرين أن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ورد في الخطبة، وسميت قرآنًا لاشتمالها عليه، والإنصات: السكوت، والاستماع: شغل السمع بالسماع، فبينهما عموم وخصوص من وجه.
واختلف العلماء في هذه المسألة، فعند الشافعية، يكره الكلام حال الخطبة من ابتدائها لظاهر الآية، وحديث مسلم عن أبي هريرة: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت".
ولا يحرم، للأحاديث الدالّة على ذلك، كحديث أنس المروي في في الصحيحين: بينما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يخطب يوم الجمعة، قام أعرابي، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادعُ الله لنا، فرفع يديه ودعا. وحديث أنس أيضًا، المروي بسند صحيح عند البيهقي: أن رجلاً دخل والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب يوم الجمعة، فقال: متى الساعة؟ فأومأ