فاعكف ببابهما على طلابهما ... تمحو العمى بهما عن كل ملتمس
ورد بقلبك عذبًا من حياضهما ... تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس
واقف النبيّ وأتباع النبيّ وكن ... من هديهم أبدًا تدنو إلى قبس
والزم مجالسهم واحفظ مجالسهم ... واندب مدارسهم بالأربع الدرس
واسلك طريقهم واتبع فريقهم ... تكن رفيقهم في حضرة القدس
تلك السعادة إن تلمم بساحتها ... فحط رحلك قد عوفيت من تعس
ومن شرف أهل الحديث ما رويناه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة". قال الترمذي حسن غريب.
وفي سنده موسى بن يعقوب الزمعيّ قال الدارقطني إنه تفرّد به، وقال ابن حبان في صحيحه في هذا الحديث بيان صحيح. على أن أولى الناس برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم. وقال غيره المخصوص بهذا الحديث نقلة الأخبار الذين يكتبون الأحاديث ويذبّون عنها الكذب آناء الليل وأطراف النهار. وقال الخطيب في كتابه شرف أصحاب الحديث قال لنا أبو نعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكثر ما يعرف لهذه العصابة نسخًا وذكرًا. وقال أبو اليمن بن عساكر: ليهن أهل الحديث كثرهم الله تعالى هذه البشرى، فقد أتم الله تعالى نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيّهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأقربهم إن شاء الله تعالى وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنهم يخلدون ذكره في طروسهم، ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات في مجالس مذاكرتهم وتحديثهم ودروسهم، فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية جعلنا الله تعالى منهم وحشرنا في زمرتهم آمين.
الفصل الثاني
في ذكر أوّل مَن دوّن الحديث والسُّنن ومَن تلاه في ذلك سالكًا أحسن السُّنن
اعلم أنه لم يزل الحديث النبويّ والإسلام غض طريّ والدين محكم الأساس قويّ، أشرف العلوم وأجلّها لدى الصحابة والتابعين وأتباعهم خلفًا بعد سلف، لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ التنزيل إلا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما سمع من الحديث عنه، فتوفرت الرغبات فيه وانقطعت الهمم على تعلمه، حتى رحلوا المراحل ذوات العدد، وأفنوا الأموال والعدد، وقطعوا الفيافي في طلبه وجابوا البلاد شرقًا وغربًا بسببه، وكان اعتمادهم أوّلاً على الحفظ والضبط في القلوب والخواطر، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معوّلين على ما يسطرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم. فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرّقت الصحابة في الأقطار، وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة وتفرّق أصحابهم وأتباعهم، وقلّ الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل أن يلتبس بالحق، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، فمارسوا الدفاتر وسايروا المحابر وأجالوا في نظم قلائده أفكارهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارهم، واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها، ودوّنوا دواوين ظهرت شفوفها، فاتخذها العالمون قدوة، ونصبها العالمون قبلة، فجزاهم الله سبحانه وتعالى عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمّة وأحبار ملّة. وكان أوّل من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه خوف اندراسه، كما في الموطأ رواية محمد بن الحسن "أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما كان من