يقتضي أن العمل له نيتان نية بها يصح في الدنيا ويحصل الاكتفاء به، ونية بها يحصل الثواب في الآخرة إلا أن يقدر في ذلك وصف النية إن لم يحصل صح ولا ثواب، وإن حصل صح وحصل الثواب فيزول الإشكال. وقيل: إن الثانية تفيد اشتراط تعيين المنويّ فلا يكفي في الصلاة نيتها من غير تعيين، بل لا بدّ من تمييزها بالظهر أو العصر مثلاً، وقيل: إنها تفسد منع الاستنابة في النية لأن الجملة الأولى لا تقتضي منعها بخلاف الثانية، وتعقب بنحو نية وليّ الصبي في الحج فإنها صحيحة، وكحج الإنسان عن غيره، وكالتوكيل في تفرقة الزكاة.
وأجيب بأن ذلك واقع على خلاف الأصل في المواضع. وذهب القرطبيّ إلى أن الجملة اللاحقة مؤكدة للسابقة، فيكون ذكر الحكم بالأولى وأكده بالثانية تنبيهًا على سرّ الإخلاص وتحذيرًا من الرياء المانع من الخلاص، وقد علم أن الطاعات في أصل صحتها وتضاعفها مرتبطة بالنيات، وبها ترفع إلى خالق البريّات.
(فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها) جملة في موضع جرّ صفة لدنيا أي يحصلها نية وقصدًا (أو إلى امرأة) ولأبي ذر أو امرأة (ينكحها) أي يتزوّجها كما في الرواية الأخرى، (فهجرته إلى ما هاجر إليه) من الدنيا والمرأة والجملة جواب الشرط في قوله فمن. قال ابن دقيق العيد في قوله: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، أي فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا، ونحو هذا في التقدير قوله: فمن كانت هجرته إلى دنيا إلى آخره، لئلا يتحد الشرط والجزاء، ولا بدّ من تغايرهما، فلا يقال من أطاع الله أطاع الله، وإنما يقال من أطاع الله نجا، وهنا وقع الاتحاد فاحتيج إلى التقدير المذكور، وعورض بأنه ضعيف من جهة العربية لأن الحال المبينة لا تحذف بلا دليل، ومن ثم منع بعضهم تعلق الباء في بسم الله
بحال محذوفة أي ابتدىء متبركًا قال: لأن حذف الحال لا يجوز، وأجاب البدر الدماميني منتصرًا لابن دقيق العيد بأن ظاهر نصوصهم جواز الحذف، قال: ويؤيده أن الحال خبر في المعنى أو صفة وكلاهما يسوغ حذفه بلا دليل فلا مانع في الحال أن تكون كذلك. اهـ.
وقيل: لأن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر وتارة بالمعنى، ويفهم ذلك من السياق كقوله تعالى: {َمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71] أي مرضيًا عند الله ماحيًا للعقاب محصلاً للثواب، فهو مؤوّل على إرادة المعهود المستقرّ في النفس كقولهم: أنت أنت أي الصديق، وقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري. وقال بعضهم: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر أو الشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم كقوله: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، وإما في التحقير كقوله: فمن كانت هجرته إلى دنيا إلى آخره، وقيل الخبر في الثاني محذوف والتقدير فهجرته إلى ما هاجر إليه من الدنيا، والمرأة قبيحة غير صحيحة أو غير مقبولة ولا نصيب له في الآخرة. وتعقب بأنه يقتضي أن تكون الهجرة مذمومة مطلقًا وليس كذلك، فإن من نوى بهجرته مفارقة دار الكفر وتزويج المرأة معًا لا تكون قبيحة ولا غير صحيحة بل ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصده الهجرة لكن دون ثواب من أخلص. وقد اشتهر أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوّجه حتى يهاجر فهاجر فتزوّجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس. ولم يقف ابن رجب على من خرجه فقال في شرحه الأربعين للنووي: وقد ذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم ولم نر له أصلاً بإسناد يصح. وذكر أبو الخطاب بن دحية أن اسم المرأة قيلة، وأما الرجل فلم يسمه أحد ممن صنف في الصحابة فيما رأيته، وهذا السبب وإن كان خاص المورد لكن العبرة بعموم اللفظ والتنصيص على المرأة من باب التنصيص على الخاص