رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نضر الله امرءًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ". رواه الشافعيّ والبيهقي وكذا أبو داود والترمذيّ بلفظ: "نضر الله امرءًا سمع منّا شيئًا فبلغه كما سمعه فربّ مبلغ أوعى من سامع". وقال الترمذي: حسن صحيح. وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبي ّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في حجة الوداع: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فربّ حامل فقه ليس بفقيه" الحديث. رواه البزار بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه من حديث زيد بن ثابت، وكذا روي من حديث معاذ بن جبل والنعمان بن بشير وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأبي قرصافة وغيرهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبعض أسانيدهم صحيح، كما قاله المنذري، وقوله نضر الله بتشديد الضاد المعجمة وتخفف، والنضرة: الحسن والرونق، والمعنى خصّه الله تعالى بالبهجة والسرور لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السُّنَّة، فجازاه في دعائه له بما يناسب حاله في المعاملة. وأيضًا فإن من حفظ ما سمعه وأدّاه كما سمعه من غير تغيير، كأنه جعل المعنى غضًّا طريًّا، وخصّ الفقه بالذكر دون العلم إيذانًا بأنّ الحامل غير عار عن العلم إذ الفقه علم بدقائق العلوم المستنبطة من الأقيسة. ولو قال غير عالم لزم جهله. وقوله ربّ وضعت للتقليل، فاستعيرت في الحديث للتكثير. وقوله إلى من هو أفقه منه صفة لدخول رب استغنى بها عن جوابها، أي رب حامل فقه أدّاه إلى من هو أفقه منه لا يفقه ما يفقهه المحمول إليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللهَّم ارحم خلفائي" قلنا يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس". رواه الطبرانّي في الأوسط. ولا ريب أنَّ أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم من وظائف الأنبياء صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين. فمن قام بذلك كان خليفة لن يبلغ عنه. وكما لا يليق بالأنبياء عليهم السلام أن يهملوا أعاديهم ولا ينصحوهم، كذلك لا يحسن لطالب الحديث وناقل السُّنن أن يمنحها صديقه ويضعها عدوّه، فعلى العالم بالسُّنَّة أن يجعل أكبر همه نشر الحديث، فقد أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالتبليغ عنه حيث قال: "بلغوا عني ولو آية" الحديث رواه البخاري رحمه الله. قال المظهري أي بلغوا عني أحاديثي ولو كانت قليلة. قال البيضاوي رحمه الله قال: "ولو آية" ولم يقل ولو حديثًا لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم منه بطريق الأولوية، فإن الآيات مع انتشارها وكثرة حملتها تكفل الله تعالى بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف اهـ.
وقال إمام الأئمة مالك رحمه الله تعالى: بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة عن تبليغهم العلم كما تسأل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال سفيان الثوري: لا أعلم علمًا أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى، إن الناس يحتاجون إليه حتى في طعامهم وشرابهم، فهو أفضل من التطوّع بالصلاة والصيام لأنه فرض كفاية. وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". وهذا الحديث رواه من الصحابة عليّ وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة رضي الله عنهم، وأورده ابن عديّ من طرق كثيرة كلها ضعيفة، كما صرّح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البرّ، لكن يمكن أن يتقوّى بتعدّد طرقه ويكون حسنًا كما جزم به ابن كيكلدي العلائي، وفيه تخصيص حملة السُّنَّة بهذه المنقبة العلية، وتعظيم لهذه الأمة المحمدية وبيان لجلالة قدر المحدّثين وعلوّ مرتبتهم في العالين، لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين، بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها.
وقال النووي في أوّل تهذيبه: هذا إخبار منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفًا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر. وهكذا وقع